خاص ” السبت الثقافي ” في ميزان الزمان :
يوم دخل “غوتة” البندقية مستكشفاً.
مدينة الحب تغلق نفسها على البحر
ومدينة الحرف تصغي لنداء الغرقى في قعره.
-×-×-×-×-
كتبت الاعلامية دلال قنديل :
تشرق المدن الساحلية على الحب والمعرفة .
وُجدت لتكون همزة وصل بين اليابسة المنغلقة والبحر المُشرَع للشمس بإنطفائها ولهبها.
هكذا كانت بيروت مدينة الحرف، والبندقية مدينة العشاق والفن.
لن يغفر التاريخ لمن جعلوا من حلم المدينة سراباً، واطفأوا منارتها.
قد تستكين المدن ولا تذوي.
تصغر قامات البشر أمام جسارة المدن العابرة للازمنة ، تتلو حضارات من سلالات واجيال.
بذاك الذهول يُكتب تاريخ مدينة كالبندقية
venezia .
venezia ( تصوير الكاتبة دلال قنديل. )
“لقد دُون في صحائفي على كتاب القدر أن تكون الساعة الخامسة من عصر الثامن والعشرين عام
1786
هي موعد رؤيتي للبندقية اول مرة في حياتي” بهذا الخشوع إستهل غوتة سرده في كتاب “رحلة إيطالية”.
البندقية مدينة الحب والجمال لا تموت ، لكن رائحة التعب تتسرب لزائريها ، من بحرها الغاضب بصخب السفن في ممراته الضيقة ، طرقاتها المحشورة بأقدام عشرات ملايين البشر المتدفقين اليها كل عام .
أدرجت منظمة اليونسكو البندقية على قائمة آثار التراث العالمى المهدد منذ العام الماضي دون إجراء يبدل من حالها.
يخترق البحرَ بنيانٌ خشبي دمجته الاتربة على مر أعوام القرون العابرة ، ليبقى عصياً على المد والجزر.
عندما وضع بُناتُها الاوائل تلك المداميك الضخمة في قعر البحر لم يجمح خيالهم بأن أجيالاً ستُخلد فنهم ، تتبع خطاهم بزخرفاتهم وألوانهم الأبدية الساحرة.كما لم يخطر لهم أن اجيالاً من البشر ستدفع بالتوازن المناخي الى جنون يُخرج الارض عن مسارها.
الاحتباس الحراري المتضاعف وارتفاع نسبة المياه يعدان خطراً غير مسبوق، ويطلق الناشطون في الدفاع عن المدينة صيحة تحذير عالية من انه سيتعذر على احفادهم مشاهدتها.
بدأ تنفيذ مشروع جريء قبل مدة لرفع أجزاء من المدينة فوق المياه وحمايتها من الأمواج. مشروع معقد يشمل وضع دعائم كوسادة لأجزاء من ساحة “سان ماركو” التاريخية.
تغزل آلة الزمن الحضارات بسرعة دورانها.بين ساعة البندقية الفلكية التي تآخيها ساعة بادوفا
padova كتحفتين نادرتين، تضبط ساعات حديثة هذه الايام ضربات الموج المتمدد على أعمدة البندقية وأساسات أبنيتها بطرازها المعماري المتنوع.
ساعات وضعت في قاعات فسيحة لمراقبة حركة الموج لردع البحر عن إلتهام اليابسة.
من يشهد مغيب شمس البندقية مرة في عرض بحرها ، أويشهد تسرب ضؤ القم بحنو على مقربة من لهاث العاشقين تحت جسر يحمل إسم انفاسه، لا بد أنه سيحمل المدينة في قلبه أينما ذهب.
العين تبقى على البندقية ، بعدما نجت منتصف الاسبوع من تدفق الموج وإرتفاعه بمدٍ بحري قارب مئتي سنتمتر .
الرافعات التي وضعت في عرض البحر بدت هجينة للناظر الى إمتداد الازرق بجماليته الفريدة ، تحت قبب الجسور المتتالية .
لا تشبه البندقية إلا نفسها، مدينة للحياة والمرح والفن والحب، مدينة لا تنام .
قناتها الكبرى”غراندي كنالي” تتلوى بتعرجات تربط جزرها المتمادية، تأخذ الخطى المتمهلة اليها لتزيح بعض التعب عن مركز المدينة، بإستقطاب الجزر لإستضافات ثقافية عالمية دورية تميزت بها جزيرة
“الليدو”lido .
سردُ “غوتة” في رحلته الايطالية لسيرة المدن وناسها الاوائل ، يعيدنا الى اوائل التكوين .
في البندقية يسخر من نهاية إحدى المسرحيات ومطالبة الجمهور تحت وقع التصفيق الحاد” بخروج الموتى” اي الذين اُسدلت الستارة على موتهما في قصة تحكي صراع اثنين من الاباء “يبغضان بعضهما، أما ابناء وبنات العائلتين المتناحرتين فهم واقعون في غرام بعضهم ولا يبقى في النهاية سوى ان يتقاتل الابوان وينتهيان بتسديد الطعنات المميتة”.
ونحن نردد بسخرية “غوتة”:هل يخرج الموتى؟
من تصله لغة البحار يوقن أنه يحمل الصدى .
في أعماق بحر بيروت لا بد أن نسمع يوماً صراخ الغرقى ولعناتهم على الذين شوهوا وجه المدينة يوم تزلزلت الارض وإبتلعها البحر.وما بقي ويتراءى انه نجا ما هو سوى اشلاء .