صديق مونبلييه
منذ برهة نزولي من القطار، على أرض محطة Monpllier، العاشرة من صباح يوم الأحد:23/10/2022، تملكني شعور عظيم، أن هذة المدينة في غاية النبل. في غاية الرحابة. في غاية الجمال. وأن مثلي، إنما هو في غاية الشوق، لأن يكون صديقا لها.
كنت، حين وطئت قدماي أرض محطة القطار العظيمة، أشعر بأنس هذة المدينة بزائريها. أشعر بعمق ترحابها بهم. أرى في رصيفها الأبيض من الحجر القديم الذي نحت نفسه بأقدام الزائرين، حروف رسائل مرحبة بالقادمين. أنفاسا وأشواقا و مهجا ذائبة. تسيل مع زمن المحطة، في إستقبال قطار، وفي وداع قطار. وتبسم في وجوه الركبان، بلا تعارف. بلا معرفة.
هي هكذا، محطة القطار في مونبلييه، وجه “أكابري” ضحوك. تأنس بالناس قبل أن يأنس الناس بها. فكل حجارتها تذوب مثل جداول الماء. مثل الينابيع. مثل أحواض عظيمة. مثل أنهار، تستقبل النهارات القادمة.
كانت قاعة الوصول في المحطة، أول عقد لي عقدته للصداقة مع هذة المدينة النبيلة. أشهدت جدرانها. أشهدت بلاطاتها. أشهدت علي الأهل والإخوان والخلان، في جميع الرسائل التي كتبتها. قلت لهم جميعا: أنا صديق هذة المدينة العظيمة، من الباب الذي رحب بقدومي إليها، صبيحة ذلك اليوم الذي آنستني فيه، جميع أسراب الحمام، الذي بنت أعشاشها في شقوق المحطة.
كنت كل يوم أقصد فيه وسط المدينة، تسبقني عيوني للسلام على المحطة. أغامزها. تغامزني.كأننا صديقان حميمان من زمن بعيد. زمن عظيم، كان ينتظر بناء المحطة. فهل يكون الحب أعظم من المحبوب. من تاريخه. حين يعظم الشوق، فيجتاح كل المراحل التي نبتت فيها المحطة على عشب المدينة، في أرض مونبلييه العشيقة.
محطة مونبلييه، للقطارات القادمة من شتى أرجاء البلاد، أعوزتني، حين تدنت مني قبلة على خدها، أن أقول: اليوم قد وجدتها!
سرت على سكك الحديد الصديقة. أوصت بنا محطتها. نروح. نجيء. نغرب ثم نؤوب. ولا شيء يجعل القلب يؤخر لحظة، عن النزول. عن الصعود. عن القفز من الشبابيك إلى الأعشاب، إلى الأشجار إلى الأزهار، إلى الحدائق المشرئبة. إلى الناس في الشوارع، على أرصفة المقاهي، على مقاعد الجلوس في شبكات الترام، التي لا تؤخر لحظة عن الوصل، بين بابين: باب الإنتظار، وباب الصعود إلى القطار. هلا مثل ذلك، يمكن أن تكون الصداقة.
كل يوم تعظم مني برهة. تدق ساعتها في تمام العاشرة. في تمام الأحد. في تمام النزول من القطار القادم من باريس إلى مونبلييه. حط القلب فجأة على محبوبه. سلمت العيون على العيون. وسالت بنا الشوارع دون إهتداء. ذات اليمين وذات الشمال. والنجم طفل بجانبي. والشمس تغطي حاجبي. فأخجل من ندى الحب يرعف فوق درب، يهل بالأقمار. سارت بنا إلى اللقاء الأول. تحت شباك وجملون وحورية تسكن شجر الحور، يرحب بي، ليل نهار.
ذات يوم . ذات ساعة. ذات شهقة. تجمد الزمن عند المحطة. صار زمن المحطة زمني. كيف أصرفه عني، وقد لابسني العشق. لابسني عشق المحطات. لابسني عشق محطة مونبلييه. لم أعد غير قلب يسيل على زمن. قبل أن يقدم هذا الزمن.
صديق مونبلييه أنا. وهذا القلب كله لها. هذا الذوب في الطرقات في التيجان. في الصنابير التي تبرد القلب من شوقه. في النوافير التي تبترد كلما إبتردت. رأيتها كأنها، كانت تبترد معي.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين