” بيروت الفكرة المتلاشية”
بقلم الاعلامية والكاتبة دلال قنديل
-×-×-×-×-
اي ثقافة ستولد من هذا الإنهيار؟.
تُراكم البلدان هوياتها بالتاريخ والتجارب . ترث الاجيال بنزعة التمرد والتجديد جزءاً من هويتها الثقافية او لبنة تكوينها الاولى على الاقل.
حقبة الفورة الثقافية التي اتسمت بها بيروت في الستينات إمتداداً للسبعينات وصولاً الى الثمانينات تأثرت بتشويهات الحرب حتى اندثرت تدريجاً واكتملت صورة التداعي مع إفساد الصحافة بالمال ولا سيما منذ مطلع التسعينات.
منذ ان باتت اسماء مؤسسات كبرى تباع وتشترى علناً وتتلون وفق رغبة الممول او الممولين.
أما المنتديات الثقافية فأُُخضعت هي الأخرى للطوائف وزعاماتها ومرجعياتها ، تُقطر على مؤسسة وتغدق على اخرى، تنهش من المال العام لتعزز سلطتها حتى نفذ بالكامل .
ذاك التناحر والتقاتل الشرس في الحرب أنتج صيغة محاصصة طائفية حزبية ظهرت نتائجها تدميراً ممنهجاً لروح الثقافة المحلقة بالفكر خارج الاصطفافات.
كان الوطن الخاسر الوحيد من تلك الصيغة بحيث ذابت هويته وإندثر دوره وأستُنسخ موقعه في دول الجوار .
إعلاميون ومثقفون لا يحصون باعوا اقلامهم لمن يدفع أكثر. وربما لجهات متعددة في حقبة واحدة ، او لجهات عديدة و لمرات متكررة .
لا نغفل أن ما كان يخرج من شقوق السيطرة تلك كان مجلياً ناصعاً، بقي صداه يتردد في شوارع المدينة التي أزهرت شارعاً ثقافياً يضج حياة وإبداعاً بمقاهيه هو شارع الحمرا.
إمتداداً لشارع الحمرا وبالتوازي مع شارع بلس حيث يقع المبنى العريق للجامعة الاميركية ومطعم فيصل كعلامات فارقة لروح المدينة، يقع أيضاً شارع عبد العزيز على الخط العلوي الموازي لشارع الحمرا ،حيث تتربع في إحدى مفارقه دار بحديقة جميلة تزينها طاولات بيضاء، واخرى بلون خشبي مزين بالموزاييك المعشق بالصفد. تلك الروح الشرقية التي تلم شتات غرف الدار الواسعة بسقفه العالي وبلاطه الملون كان يستدرجني للتأمل مرة تلو مرة.
كل صباح إثنين على مدى اكثر من عشر سنوات منذ مطلع الثمانينات كنت أزور بيت المفكر الراحل منح الصلح . كنت اجري معه حوارات اسبوعية لوكالة الانباء الصحافية قبل أن أعمل معه ، كمحررة مساعدة على إعداد مادة ارشيفية ومراجع لمقاله الإفتتاحي غير المُوقع لمجلة الحوادث . يجول المقال العالم بحبكته المعهودة ” كقطب الخياطة العجمية” بتوصيفه المعتاد للصحافة .
وقد جمعتني به علاقة صداقة شخصية وعائلية وكانت زيارته لنا في إيطاليا لمدة اسبوع مطلع التسعينات سبباً لعودتنا الى لبنان انا وزوجي وإبننا البكر، إبن الثلاث سنوات .
كان منح الصلح ، يحرص على أن يكون” أول الجديد وليس آخر القديم” وهو سليل عائلة “البكاوات” البيروتية العريقة. يشاكس بإقتدار ويجاهر بجرأة وحنكة بمعارضته، يزين عباراته لتصبح حِكماً وتوصيفات عناوين لمراحل كتعبير” المارونية السياسية” الذي كان عنوان كراس كتبه في منتصف الحرب عن لبنان الصيغة و العيش المشترك . لتصبح هذه العبارة لاحقاً عنواناً لكل تحليل إجتماعي- سياسي لجذور الحرب وتكوين النظام.
كنت قبل أن ادخل المنزل ، عند الثامنة يتناهى صوته بنبرته العصبية العالية، متقطعاً بضحكته المفرقعة الساخرة، هو جزء من اسلوبه اللاذع في تصوير السياسة والسياسيين .
قبالته يجلس على الكنبة الجلد الكاتب الراحل ميشال أبو جودة الذي كان يزوره بشكل دوري و شبه يومي.
بعد أن عملت في تلفزيون لبنان في مطلع التسعينات وكنت مندوبة لفترة في وزارة الخارجية، فوجئت بأن هذا الكاتب الذي يتصدر عاموده اليومي إحدى كبريات الصحف يواظب على زيارة الوزارة كل يوم متنقلاً بين مكاتب سفرائها ،كي لا تغيب عنه اخبار عاصمة من العواصم ليسند مقاله ويَجدُلُه بالمعلومات الموثقة.
أما منح الصلح فكان يبدأ نهاره قبل الثامنة،بلقائه ميشال ابو جودة أو معن بشور وبشارة مرهج وقلة من اصدقائه المقربين وغالباً ما يزور مركز دراسات الوحدة العربية ويتحاور مع مديرها الدكتور خير الدين حسيب وزواره من الكتاب العرب او مكاتب الجامعة الاميركية وهو خريجها ولاحقاً ليقضي نهاراته في مقر دار الندوة وهو احد ابرز مؤسسيها.
أما المساءات فكانت صاخبة بالسياسة، متنقلاً بين مكاتب أصدقائه الكثر في صحيفتي “النهار” و”السفير”. وفي مقدمهم ناشر النهار الراحل الكاتب صديقه غسان تويني وناشر السفير صديقه ايضاً الكاتب طلال سلمان الذي نتمنى له اليوم الشفاء التام .
وفي المكانين تتوالد مقولات منح الصلح، مقالات بأقلام صحافيين يشاركون في تلك الجلسات.
تلك النقاشات ايضاً تحط مادة حية يعزز بها مقالته التي كانت تجول العالم .
بهذا التفاعل الحيوي كانت بيروت عروس الشرق تتجلى .
هكذا كانت تغزل السياسة في دول كثيرة بالكلمات وبالثقافة وبسيرة مفكرين خطوا مساراً لحياتهم بالمعرفة.
لم تخلُ تلك التجارب لكبار عاصرناهم ولحقبات مشحونة بالحرب من الشوائب. لكن اثرها على تكوين أجيال من المثقفين كان بالغاً، وعلى ترسيخ مؤسسات قد تبدو لوهلة متنافرة غير أنها كانت بتلاوينها وزركشاتها خلطة بيروت السحرية ، وفسيفساء لبنان المشع الذي حلمنا به يوماً .
كانت بيروت عاصمة الفكر في العالم العربي.
صحافتها وجامعاتها ومنتدياتها ساحة مفتوحة على الجدل والحوار. رغم تشظي الحرب بقيت الفكرة مساحة تتيح التفاعل.
أمام هول الفاجعة التي نشهد اليس من حقنا أن نسأل أي فكر حر سيولد من روح الإنهيارات؟
وانا أتلقى نبأ فاجعة رحيل شابة تحت سقف صف تهاوى على رأسها في إحدى مناطق طرابلس المنسية أسأل أي جيل سيخرج من هذا الدمار إن لم ينجح بالفرار؟
هل يدرك القيمون أي جريمة بحق البلد يرتكبون؟.
دلال قنديل
االاعلامية والكاتبة دلال قنديل ياغي
كم نحن بحاجة إلى مثل هذه الشّهادات ممّن عاصروا كبار المفكّرين الّذين أعطوا نكهة للسّياسة، مفقودة في هذا الزّمن، واختطّوا مسارًا مجبولًا بالمعرفة والتّفاعل والإشعاع كفسيفساء، كما أشارت الإعلامية السّيّدة دلال قنديل في مقالتها. يجب ألّا تغيب هذه الإضاءات الأصيلة عن الصّحافة المكتوبة، وسط هذا التّعتيم القاهر في مطابخ السّياسة الطّائفيّة والفساد والمحسوبين عليها من بعض وسائل الإعلام، وإن كانت المرارة تدفعنا إلى التّساؤلات الأخطر بشأن مصير هذا “اللّبنان”، “المستنسخ موقعه” قبل أن يصبح أطلالًا. شكرًا لهذا القلم المفتقد في ربوع الوطن، ولكن المضيء أينما حلّ، بالأصالة والوطنيّة.