برهة مونبلييه
بدأت رحلتي إلى مونبلييه، فجر الأحد23/10/2022. من Chelles بضاحية باريس. إنطلقنا إلى محطة القطارات، بصحبة عروسي Chelles: محمود وسيما. وفي السابعة صباحا، غادرنا باريس، متوجهين: أم مصطفى و أنا بال “TGB”، إلى محطة مونبلييه. إستغرقت الرحلة زهاء الثلاث ساعات ونيف. توقف القطار خلال رحلته، مرتين في محطتين، ليستا بعيدتين عن مونبلييه.
وصلنا إلى محطة مونبلييه في العاشرة صباحا أو أكثر بقليل. فأسرعنا إلى الحقائب نتلمسها في غمرة حقائب الركاب المكدسة فوق بعضها. كانت تنتظرنا وحدها. ذهب الركاب بحقائبهم دونها. فلا سرقة حقائب ولا ما يحزنون.
فرحنا بحقائبنا. حملناها و أسرعنا إلى محطة ال “الترام”. ووصلنا بعد ربع ساعة إلى البيت.
ما تغير علينا في مونبلييه عن Chelles التي غادرناها، إلا شيء واحد: الطقس الدافئ. بالأضافة إلى المواصلات المنظمة، بالترام وبال Bus. ذلك أن تنظيم شبكة المواصلات، في مونبلييه مهمة ومحترمة للغاية.
وبعد إستراحة طويلة في البيت، من الظهيرة حتى المساء، قمت بنزهة ليلية إلى ال”سنتر فيل”، مشيا على الأقدام، بصحبة دانيال. فقد كان متعودا على صحبتي، وأنا كنت متعودا على صحبته. ثم عدت بعد ساعة إلى البيت. سهرنا تلك الليلة، نقص الأحاديث. وقد كانت أم مصطفى هي التي تقص، أما أنا فكنت أنص. لأن القص للزوجة في مثل هذة الحالة. وأما النص، فللرجل. وفي القديم يقول المثل: “أمي تقص، وأبي ينص”.
في اليوم التالي، بدأنا النشاطات: الذهاب إلى القاعة الرياضية للبلدية بصحبة ريان ودانيال لتعلم الفروسية. ومدة الحصة ساعتان. من العاشرة، حتى الثانية عشرة. ومن هناك ذهبنا إلى الأسواق. تعرفنا عليها بصورة إجمالية. ثم عدنا في الثانية عشرة، فإصطحبنا الأولاد إلى البيت. تغدينا سريعا. الحمص بطحينة والكينوى والخضار. ثم ذهبنا في نشاط ثان إلى القاعة الرياضية بجانب ليسيه جورج فريش، التي قدمها للألعاب الرياضية، مساهمة منه، في تربية الأجيال على النشاطات الرياضية. ومن هناك دلفنا إلى الأسواق الحديثة. تعرفنا أليها. مكثنا قليلا في مقهىStarbucks. ثم غادرنا إلى القاعة. وصلنا على الموعد المحدد: الخامسة إلا عشر دقائق. ومن هناك إنطلقنا إلى البيت.
كانت السهرة جميلة بعد نشاطين. وخلدنا إلى النوم في العاشرة ليلا. ثم صحونا باكرا على يوم جديد ونشاط جديد. فكنت أصطحب ريان ودانيال كل يوم. وكان الطفل دانيال إبن السابعة، دليلي إلى ذلك، فهو لا يخطئ أبدا في النزول وفي الصعود من المحطات. وفي أخذ الإتجاهات الصحيحة. وكثيرا ما كان يلفتني إلى أخطائي في تقدير محطات توقف الBus أو الترام.
صار نشاطي هذا روتينا بصورة يومية. وصرت آلف مقهىStarbucks في السوقين بمونبلييه. شعرت بالراحة. وكذلك بالإطمئنان. تماما كما شعرت بالخدمات التي تقدمها للزبائن في الأسواق.
كنت كل يوم أقوم بجولتين: جولة الصباح لساعتين، تشمل الأسواق في المدينة القديمة. وجولة الظهيرة، وتشمل الأسواق الحديثة. وكنت خلال ذلك أتحسر على ضياع الأسواق في بيروت وطرابلس وصيدا وصور. كنت أشعر حقا، بأن ليس من الممكن أن نجمع بين السلام وبين الحوربة في ساحة واحدة.
أنت في مونبلييه، تعيش نعمة السلم حقا. تتلمس ذلك يوميا، من خلال العمل البلدي المنتظم. ومن خلال عمل الدولة المنتظم. ومن خلال عمل الناس المنتظم. فما من شيء يعكر الصفو والحرية والتطور والتقدم. لأن مونبلييه، قررت أن تعيش برهة السلام الحقيقية. وبرهة الإطمئنان أيضا. وبرهة السعادة لجميع مواطنيها. ولجميع زائريها. ولجميع النازلين فيها على حد سواء.
مونبلييه، مدينة تنبسط للناس في شوارعها النظيفة. تنبسط للناس في حدائقها الجميلة. تنبسط للناس في خدماتها. وفي شبكة مواصلاتها. فلا تترك أحدا على الطريق، يتعثر في الوصول إلى جهته. إلى مأمنه. وهي إلى ذلك، مدينة دافئة. مثل بيروت تماما. تملأ الشمس نواحيها كلها من الصباح حتى المساء. فيخرج الناس في طلب حاجاتهم حانين، دافئين. أغنياء. غناهم: شبع وري. وذلك من نعم كثيرة لا يستطيع المرأ أن يحصيها. أما المدينة القديمة في مونبلييه، فهي شبيهة بعمارتها وأسواقها، بمدينة طرابلس أو جبيل أو صيدا أو صور. وهذا مرده إلى المتوسط الكبير، الذي وحد العمارة، على طول ساحله البهيج.
تذكرت مدن لبنان، لأنني عشت نعمة المدينة اللبنانية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. أرى صور حشود الناس في الساحات العامة، طوال الليل وطوال النهار. فالأسواق في مونبلييه، لا تنام. تسهر حتى الصباح مثل ساحة البرج في بيروت. ومثل ساحة التل في طرابلس. أما مقاهيها، فهي مثلما كانت عليه مدننا، قبل أن تأخذها “الحوربة” إلى الخراب فالإقفال. وأنا اليوم أمر بساحات مونبلييه، فأتذكر حقيقة نظافة ساحات بيروت وطرابلس. وأتذكر القطارات. وأتذكر الترامواي. وأتذكر سكك الحديد. وربما عرفت بيروت وطرابلس شبكة المواصلات، قبل مونبلييه، أو معها في أقل تقدير. غير أن السلم في مونبلييه، جعلها تحافظ، على مكاسبها المدنية. أما الحوربة عندنا، فقد أتلفت جميع معالم الحياة المدنية، ومحت آثارها. ولو أنها أبقت على سجلات العمال والموظفين. بلا عمل. وبلا وظيفة.
حافظت مونبلييه، على طابع عمارتها القديمة. حافظت على أحيائها القديمة. جعلتها للزيارات. يشتهي الزائر حقا، أن يزورها.
ربما كان لبلدية مونبلييه دور رائد، في الحفاظ على تراث المدينة. وعلى طوابعها العامة. وعلى تقاليدها الحضارية والثقافية. وعلى عمائر مراكزها الثقافية التراثية. كذلك، ربما كان للبلدية دورها الهام، في حفظ حياة الناس في المدينة. وفي تقديم الخدمات لهم. وفي الإهتمام بجيلين: جيل الأطفال والصبيان. وجيل الشيوخ والعجزة. فهي تقدم لهم الكثير من الخدمات المجانية وأهم ذلك: المواصلات المجانية في الBus والترام. وكذلك البطاقة الصحية المجانية. بالإضافة إلى الخدمات الأخرى: مثل تأمين الرحلات المجانية. وتأمين الألعاب المجانية. وتقديم سائر خدمات الترفيه والتسلية لهم. وهذة رعاية حقا صادقة. وهي إرث ثقافي وحضاري في مونبلييه، لا أعرف مثيلا له في سائر المدن. وفي سائر الحضارات.
مونبلييه، إلى ذلك، مدينة الحدائق والجنائن. مدينة الزهور والورود على مدار الفصول. مدينة التلال التي تساهر بعضها بعضا. التي تناظر بعضها بعضا. التي تساند بعضها بعضا. مدينة الأنهار. مدينة الجداول. مدينة الجسور. مدينة القباب. ومدينة السواحل. مدينة المتنزهات. ومدينة الناس من كل الأجناس. تراهم يؤمونها للعيش فيها. وربما يختارونها، لتمضية بقية العمر فيها. لأن النظام على المسنين، يجري بلديا بكل عطف. وكذلك النظام على الأطفال والصبيان. وأما جيل الشباب، فإن الإدارات الرسمية تساعدهم للحصول على أعمال مناسبة لثقافتهم، ولإهتماماتهم، ولشهاداتهم.
وأهم ما تتميز به مونبلييه، هو عملها البلدي الراقي. فالنظافة عنوانه في جميع شوارعها ونواحيها. ومجمعات النفايات وراء جدر منظمة ومحكمة التنظيم في جميع الحارات وفي جميع الدارات. وفي جميع العمارات. وفي جميع البيوت.فلا مهملات في الطريق. ولا في السلال المنظمة بحسن توزيع، على جنبات الطرق والدروب. فالملاكات التي ترعى ذلك، حسنة التنظيم والتدريب. ولا يفوتها شيء من حسن المراقبة في الكاميرات. وأما مراجعات الناس، في الإخلال بأي أمر من الأمور، فقد يستجاب له في العاجل، ولا يحال إلى الآجل. لا يؤجل طلب لمواطن في مونبلييه، إلا ويبت فيه خلال ساعتين أو خلال يوم أو يومين على أبعد تقدير. شكا دانيال إبن السبع سنوات، أن الBus لم يتوقف له على محطة الإنتظار، وهو في طريقه إلى المدرسة، بحجة زحمة الركاب، فردت عليه الدائرة، أنها عالجت الأمر. فلا يمر Bus إلا ويتمهل لحمل الأطفال من و إلى المدرسة، على أية حال.
برهة مونبلييه، ليست كسائر البرهات. ففيها إلى قلبي ريان ودانيال. فيها زمن يطول بالذكريات. فيها برهة ناعمة البال، جد طويلة. وليس الوقت للوصف السريع، في حالة مونبلييه اليوم، بل للمقارنة بين بلديتها، وبين الخدمات التي تقدمها سائر البلديات. فبلدية مونبلييه ربما تحتذى، للأسباب التي عرفتها خلال أسبوع من العيش فيها. فذكرتها. وأما ما لا أعرفه فهو كثير. وربما سأتحدث عنه في مقالات مقبلة. فمونبلييه، مدينة تكثر الكتابة عنها. لأنها مدينة كثيرة علي، حقا.