صار شائعا وأصيلا ”
بقلم د. جوزاف الجميّل
-×-×-×-×-
( قراءة أولى في النص الشعري الأول”صار وجهك شائعا” للأديب الدكتور جميل ميلاد الدويهي)
على شرفة الموج، قرأت شعرك، أيها الصديق جميل ميلاد الدويهي. إنه شعر البحر والألم والحنين، شعر المسافات التي لا يحدّها عمق أو امتداد. شعر يغوص إلى الأعماق، حيث محارة فينوس، ويمتدّ على سطح المحيط ليصل ما بين الضفّتَين.
صار وجهك شائعا، يقول الشاعر الدويهي.. ولكنه وجه شائع وأصيل؛ لأنه وجه القصيدة والحب . وحيثما يكن الشعر والحب تنكشف الحياة، في أبهى مظاهرها.
وجهها هو وجه القصيدة، يرسمه الشاعر على الشجر العاري. وعري الشجر هو الحقيقة، بل الناي الجبراني، في شدوه سر الوجود.
أبعد من ذلك، تتّحد في قصيدة الدويهي الفنون الجميلة: يرسم الوجه، وينقشه. وفي الرسم والنقش زخرفة بيانية تجمع الشجر والماء. وكأننا أمام لوحة قال فيها أحد الشعراء، استنادا إلى حديث نبوي:
ثلاثة تجلو عن القلب الحزن
الماء والخضرة والوجه الحسن
ولكن الماء الطاغي في الصورة الدويهية يمتاز بامتدادين :عمودي( المطر), وأفقي( الأشرعة الهاربة), أي البحر.
أما الأشرعة الهاربة فهي نفسها “اللذة الهاربة”, عنوان ديوان الشاعر اسكندر داغر. لذة الحنين إلى أرض جديدة، وسماء جديدة.
ونتساءل:أتهرب الأشرعة وحدها، أم يرافقها سندباد رأى السفر مغامرة في المجهول، إلى ما خلف الموج والذكريات؟
إنه عالم الماء يجذب الشاعر الدويهي، هربًا من جفاف الصحراء، في ذاته القلقة.
يمثّل المطر الحلم، والأشرعة السفر، والاثنان الغربة عن هذا العالم.
قد يكون للمطر سمة سيّابية، بحثًا عن الثورة والتغيير. ولا تغيير خارج القصيدة/الوجه. وچهها النور ينقشه الشاعر على “قناديل الليل”.
والقناديل رمز للنور والليل في آن، ورمز للسفر، أو الحكمة الديوجينية. قناديل يعرفها المسافرون والصيادون والفقراء. ولعلّ الجمع بين هؤلاء نوع من المساواة، فيما بينهم، فيصبح المسافرون صيادين وفقراء. وهذه صورة جلية عن دوافع الغربة والسفر: البحث عن صيد ثمين، في بحر الغربة، يقيهم الفقر والعوز. وقد لا يكون الفقر ماديًا. إنه الفقر إلى الحرية والانطلاق، بعيدا من القيود والسدود.
صار وجهك شائعا.. إنه وجه الحرية، يكتب عنها الشاعر، ولا يتعب. والحرية والقصيدة صنوان، بل توأمان سياميّان. هي الحرية المرآة لقصيدة يعلنها الحبر بأحرف من نور. إنها القصيدة التي حرفُها “ملك الزمان”.
هي القصيدة المرأة التي قال فيها الشاعر نزار قبأني:
نبرة صوتي في إيقاع خطواتي..
من رائحة ثيابي يعرف الناس أنكِ حبيبتي،
لن أستطيع إخفاءك بعد اليوم..
فمن أناقة خطّي يعرف الناس أنني أكتب إليكِ..
من فرحة خطاي يعرفون أنني ذاهبٌ إلى موعدك..”
هذا الانسجام بين الشاعرين والحبيبة القصيدة منبعه اللقاء الروحي بين الحبيبين. لقاء يفوح شذاه، وباسمه الكون يبوح. ولكنّ امرأة الدويهيّ ليست من لحم ودم. إنها القصيدة، سمة مميزة فريدة خاصة بالشاعر الجميل،في تعدّد أنواعها.
حركات الجسد، كما الحرف، تكشف أسرار الروح، تعلن الحب، ولو صمت اللسان.
في القصيدة كلمتا مفتاح هما المعرفة والحب.
” ..كل المسافرين يعرفونه… والناس يعرفون”
والمعرفة مفتاح الحب انطلاقاً من مقولة: الإنسان عدو ما يجهل. والمعرفة الأولى هي معرفة الذات.
أما الحب فهو القادر أن يجترح المعجزات. ومن هذه المعجزات الموسيقى والعزف على التشيلو.
في قصيدة الدويهي لقاء الحواس: النظر واللمس: صورتك على أصابعي، والشمّ: رائحتكِ في البيت، والسمع:
أنَّ الحبَّ يُعلِّم الموسيقى…
هو غناءٌ لا يصل إلى سكون
حواس أربع تتلاقى في قصيدة الدويهي معلنة أصالة الشعر ودوره في رسم صورة الحياة. والحياة المقصودة هي حياة الغربة، عنوانها السفر السندباديّ المتمثل في إبحارين متوازيين، في البحر وفي الحبر. الإبحار الأول إلى بلاد غريبة، “في الأشرعة الهاربة”. بحثا عن الكنوز المرصودة، خلف البحار.
أما الإبحار الثاني في الحبر فهو القصيدة التي
يسكن كل حرف يكتبه في دفترها، دفتر الغربة والإبداع.
بين البحر والحبر جناس القلب، وحرقة في القلب، يعلنهما العزف على التشيلو، ذي الإيقاع الحزين الدافئ الذي يحاكي صوت الإنسان في أثناء الغناء.
جميل ميلاد الدويهي، صادق أنت في ما تقول. فالحبّ يجترح المعجزات، لا الموسيقى أو الغناء فحسب. والعزف على التشيلو هو عزف على أوتار القلوب، في شعرك الراقي الأنيق.
وبعد، أعترف أن ما كتبتُه عن القصيدة لمّا يصل إلى جوهر المرام، وبليغ الكلام. ولكنها قراءة أولى، في عميق حبر وحب… والسلام.