مقولة نيتشة تتجلى
“الزمان نفسه خط مستدير أوله وآخره”.
هل يدمر الإنسان نفسه قبل الارض؟.
مقالة ” السبت الثقافي ” مع الكاتبة والإعلامية دلال قنديل ياغي
-×-×-×-×-
نغزل وحدتنا بإنعزال الفرد عن مجتمعات متحللة ومدمرة ، نتكوّر لنحتمي بذواتنا من الخطر الداهم . هذه صورة الكائنات الحية المتمتعة بحيوية فكرية، المهددة في عصرنا.
أمام الازمة الكونية التي نعيشها تكبر نواة الفرد وتتضخم الأنا و تتكرس الشخصانية بموازاة تسارع إنحسار الجماعة الحامية والمسؤولة وتراجع تأثيرها. فيُترك الفرد لمصيره.
الإنهيار لا يطال الافراد او المجتمعات الضعيفة فقط. الدول حتى العظمى تهتز صورتها على وقع الحروب . غازية أم مَغزوة تبدو هزيلة مهما عظمت قدراتها في خوض معارك متجددة تدخلها معدات يغلبها عصر التكنولوجيا تدخلها لميدان معارك اليوم قبل أن تصدأ ويأكلها التطور ويحل جيل آخر من سباقات التسلح.
تأتي الصورة مغايرة عما عهدناه في زمن مضى ، لقوة واحدة تمسك بالكرة الارضية وتُحكم قبضتها على خرائطها.
بين شرق وغرب ، شمال وجنوب، لم تسُد مرة عدالة توزيع الثروات أو حتى الغنائم.
في حروب القرن الماضي كان الغالب مُضمَر يحرك المتقاتلين من خلف المسرح والمهزوم يتصدر المشهد.البلدان النامية كانت ساحة صراعات دموية تتلاعب بها أيد خفية.
يهتز العالم اليوم على إنذارات حرب نووية ، بين جبابرة، يضعون ايديهم على أزرار تحَكمهم ببقاء هذا الكوكب او بفنائه.يلوحون بالضغط عبر وسائل التواصل الإجتماعي التي حلت هي الاخرى مكان القمم او القنوات السرية للتواصل. يحركون أصابعهم على أزرار الفناء و يتباهون بإشهار حيازتهم تلك الأسلحة البيولوجية الفتاكة بشراسة غير مسبوقة .لن يتركوا لحظة حتى للكوكب المتعب أن يرتاح حتى ليلفظ أنفاسه الأخيرة. منهمكون بخطط لصراعات
مستقبلية على كواكب اخرى.
هي نفسها،تلك الدول القوية في ساحات التقاتل ،كاميركا وروسيا واوروبا العظمى ينخرها الهوان و تبدو عاجزة ، بسبب الحصار المتبادل ، عن تلبية إحتياجات مواطنيها المحاصرين بإرتفاع تكاليف الغاز والنفط حد الاختتاق ، وتدهور العملات والتضخم الاقتصادي بما ينتجه من ازمات إجتماعية حادة .
لم يعد من متسع لملاجىء نووية تقي شعوبهم المفضلة تلك الذرات القاتلة . تدريبات تقام في المدارس والمصانع والجامعات في دول تُقدر قيمة الفرد وبقائه، او ربما تحاول أن تظهر على هذا النحو، ،للتمرس على سلوك سُلم النجاة بالتخفي في لحظة الفناء تلك.
هي لحظة تروج بعض المدارس الفكرية الغربية بأنها ستكون لحظة خلاص البشرية من موت بطيء بات حتمياً أمام تهاوي سبل العيش السوي مع كل هذه الملوثات والفوضى التي تعم الكون .
التمرس على سباق الزمن مابين إنطلاق صفارات الإنذاروالنزول الى الملاجىء النووية هو سباق آخر من سباقات الحرب . عدادات بناء تلك الملاجىء بورصة اخرى لمدى التفوق في خوض نوع آخر من النزال.
في خلفية المشهد التدميري ثمة من ينسج هالة لنفسه، او فقاعة يحتمي بها. الفن والعلم جسر عبور لعالم مغاير لتجاوز السديم الذي يقف عليه هذا الكوكب بعدما أُحرقت غاباتُه وتبخرت مياهُه بثقوب بات يصعب سدها. تتوارى قلة من هؤلاء خلف مشهد ثقافي متحرك لا يعرف السكينة. كأنه يأتي من عالم آخر، قد يبدو لوهلة خيالياً بانتظار أن تنتظم من جديد أنفاس الارض ويستكين سكانها.
قرع طبول الحروب بتجلياتها كافة، أقلق دول العالم كافةحتى قبل ان تبدأ الحرب العالمية .
لكن من قال إنها لم تقع بعد؟ وإلا ماذا يعني إعادة رسم خرائط البترول والغاز والتقسيم الجغرافي الذي يعزل مناطق ويكشف اخرى .يعزز سطوة دول كانت غير مرئية ويطمس أخرى كانت قوية؟
هذا العالم الذي يولد ، إذا ما قُدر له أن يبقى لن يكون سوياً ليس لأنه يقوم على تجويع وقهر البشرية فقط ، ولا لكونه يعتمد بلا رحمة اساليب قتل مليئة بالافخاخ البيولوجية ليسود ، بل لانه يفتقد الثورة الفكرية التي رافقت مسّوغات الحروب في الماضي وكانت رافعتها وعصبها الذي جعل العقائد سلاحاً يوازي ما عداها للفوز و السيطرة.
اي عالم سيكون من دم ونزف إقتصادي وتدمير وقتل وسرقة خيرات الارض بإتلافها وتخريبها وتشويهها؟ بقتل الثقافة والتضييق على الفكر والمثقفين ؟ أي مولود سيكون من عالم تضيق فيه مساحة البحث والتجديد.يتكاثر فيه الجلادون والقتلة بلا حساب او عقاب لا بل يُكرمون ويُمنحون الجوائز بتعظيم سطوتهم إذا ما إرتضوا دور الشرطي او السّياف قاطع الرقاب.
لا حياة مستدامة لبشر مسّيرون بالغرائز لا بالفكر، مأخوذين للتعصب لا للحوار والإنفتاح. لا يُعملون عقولهم ولا يتركون أثراً لمرورهم غير الإنصياع لقوى التدمير.
المسرح المتحول على الكوكب المهتز على مرأى منا يعيدنا للتأمل بمقولة نيتشة الشهيرة في كتابه “هكذا تكلم زرادشت”
بقوله”إن كل اتجاه على خط مستقيم إنما هو اتجاه مكذوب، فالحقيقة منحرفة لأن الزمان نفسه خط مستدير أوله وآخره” .وإذا صح ذلك، ونحن متجهون لفناء حتمي . قلة قليلة ربما قد تنجو من هذا الدمار، ونقول ربما ، ليس بفعل الملاجىء النووية الرائجة كموضة في البلدان المتطورة ، ولا وفقاً لمقولة المليار الذهبي المستندة الى قوى خارقة تتحكم بمسار البشر، بل هي تلك الفئة المنهمكة بعزلتها ، المتفرغة بعيون مفتوحة على النقد للبحث في علوم الإجتماع والفلسفة عن النوازع البشرية التي جعلت الإنسان أوحش الكائنات الساعية لإفناء وتخريب كوكبه .
كائن يذهب لحتفه بأقدام ثابتة دون ورع او خوف او خجل يستحق البحث في أصله ، هل هذا هو الإنسان ؟ ام لا بد طرح سؤال مغاير اي نوع من الكائنات هو؟.
دلال قنديل/ إيطاليا
29 / 10 / 2022