أناي ( الجزء 7 )
لَيتَني أراها …
ما أن أفقت ، أبصَرتُني و ورقة في يدي وكأن يداً قد أمعنَت في ثَنيِها وخبّأتها هناك، في مكانٍ ما …
فتَحتُها ، لكِنّني لم أجرؤ على النَّظرِ إليها . هُيِّءَ لي أنني سأراها من جديد …
تلك السّمراء البَشرة ، ذات الأسنان الذّهبية والوجهِ المَوشومِ بِوَشمٍ عَريضٍ يُغطّي ذقنها الدَّقيق …
حينها ، شعرتُ بخَوفٍ شديدٍ نحوها . لم تُفارِق صورتها خيالي ، بل رافقتني دائماً في كلِّ موقِفٍ مُوحِشٍ مررتُ به …
بصّارةٌ ، تمُرُّ في الأحياء معلِنَةً أنّها ترى البَختَ وتقرأُ الطّالع . كانت تنطق كلماتٍ تحملُ مفاتيح مختلفةً ، منها الحزين ومنها المُفعمُ بالأملِ والحُبِّ والطُّرُقاتِ المفتوحة ….
أمّا أنا ، لم أكُن أرى إلا فَمَها المليء بالأسنان الذّهبية وأتخيَّل كم من السَّهلِ عليها أن تفتَرِسَ طِفلَةً بِعُمري …
كنتُ أتسمَّرُ خلفَ الكَنَبَةِ . أستَرِقُّ النَّظَرَ ، ثُمَّ تتعثَّرُ نظَراتي حين كانت ترمُقُني كأنّها تقول : إين ستختبِئين ؟ إنّني أراكِ …
ليتَني أجِدها لِأَكسِرَ خَوفي ولأرى ماذا يُمكِنُ أن يُخبيء لي ذاكَ التِّفلُ الأسوَد بِرُسوماتِهِ المُتَعَرِّجة …
إن وجدتُها ، سأرجوها أن تجلس وتستَمِع إلَي وأنا أقرأ لها طالَعي الّذي زَعزَعَ كُلَّ ما رسَمتُهُ ونَحَتُّهُ في مُخَيِّلَتي طوال سَنواتِ عُمري …
الذي أخذ منّي لونَ فُستانِيَ الوَردي وضفائري الطّويلة السّوداء …
الذي تَرَكَني في مَهَبِّ العائلة والدّين والتَّقاليد …
و الذي أخذ مني كلّ ما هو جميل …
بالرّغم من أنني لا أؤمن بحدود الزّمان والمكان إلا أن الصّورة تجدّدت ثانيةً …
ما إن نظرتُ إلى الورقةِ في يدي ، أحسَستُ بضيقٍ يجثُم على صدري ، يكتُمُ أنفاسي …
أحاول النُّهوض فَيَشُدّني الى أسفل. ربما لأنني كنتُ أعيشُ تناقُضَ الرّغبةِ في الإنطلاقِ والإنفكاكِ من إسار الماضي . كنتُ مُتهيِّبَةً من نفسي على نفسي .
بحثتُ عن معنىً فرأيتُني والسُّحُبُ تتجمّع في أُفُقي . كان الماضي يقفِزُ أمامي ويُؤميء لي بإشاراتٍ تشُدُّني ، تُبعِدُني ، وتُدنيني . نظرت حَولي مُستنجِدَةً بالشّمس ، بالقمر ، بالنُّجوم فأنا منذ خُلِقت أخشى الوقوفَ على حافةِ الزّمانِ هذه ، لحظةَ اللاعودة . كنتُ أعلمُ في نفسي أنني سأراها لا محالة …
إرتجَفتُ ، أحسَستُ بِضَعفي وبِنُدوبي العميقة تنزف مع كُلِّ نظرة ألقيتُها على تلكَ الورقة …
حملتُها ، أشعلتُها ، وأحرقتُ كل هواجِسي فيها …
فجأةً بدأتِ السُّحُبُ تندثِرُ ، وعلى حَوافِها تلاشَتِ العواصِفُ والرُّعود …
رأيتني فراشةً سوداء تخرُجُ من شرنَقَتِها ففتحتُ ليَ النّافذة وأطلقتُ العَنان لأجنحتي من جديد …
( جمانة السبلاني )