” عين النقد المروَّضة على السائد “
( مقالة السبت الثقافي للكاتبة والإعلامية دلال قنديل ياغي )
-×-×-×-×-
تمضي الأجساد في رحلة اللاعودة، أما الافكار فتبحر بعيداً بلا توقف. يولد كل يوم بأسئلة نتعثر بها، قد نرميها خلفنا أو نتتبع صداها و نفكك رموزها.
العالم أكثر تعقيداً كأنه خزانة عتيقة أُفرغت محتوياتها دفعة واحدة ولا يحسن أحد إعادة ترتيبها.
الفكرة وحدها قد تحمل القدرة على توليد عالم جديد.
الفنون والثقافة ملاذنا في زمن الأزمات. تزدحم الباحات بمهرجانات ومعارض كتب ومسرحيات وعروض سينمائية.
يبحث المواطن الاوروبي عن وسيلة تدفئة أقل تكلفة مع ما ينذر به الشتاء من إرتفاع في تكلفة الغاز والكهرباء والماء ووسائل النقل وتكاليف العيش ، يهربون من البيوت الى الباحات المشرعة للجمال. الثقافة ليست ترفاً لفئة او نخبة هي الهواء الذي يتنفسونه.
تلاحقهم عبر الشاشات مواعيد لقاءات ومنتديات ، في محطات القطار والحافلات والمراكز التجارية والساحات العامة للمدن. الدعوات تدق ابواب المنازل ، تطفح علب البريد بتلك الرسائل اليومية، التي لم تلغها وسائل التواصل الاجتماعي والايميل بل باتت رديفاً لها.
يمتزج المشهد بين بيروت وباريس وبرلين ،صف يمتد كيلومترات عدة تقف فيه السيارات ساعات لملء خزاناتها بالوقود. نتذكر ديوان الشاعرعباس بيضون “ب.ب.ب” مرمزاً لتلك العواصم التي تنقَل بينها وتوالدت فيها القصائد، غير أنّ ما يجمع عالمينا هذه المرة ليس ألقاً ببهاء عالم الشعراء .بل هو تهديد وجودي.
يكاد يُكمل مشهداً لنهاية عالم مهشم تتآكله الحروب .
الثقافة نافذة لا مفر منها، كالتعليم الإلزامي حتى السادسة عشرة لكل مقيم أو مواطن في إيطاليا على السواء. يؤهلونهم لمواجهة آلة العمل بالمعرفة والتعلم.
وأنا أشهد تدفقهم للحافلات بالعشرات صباحاً وبعد الظهر ، كلوحة جُمعت فسيفساؤها من أنحاء العالم بألوانه وسحناته، تراودني صورة جامعتنا الوطنية التي تنؤ بأثقالها وتعود اليّ صور مخيمات النازحين بأطفالها المشردين الأميين جيلاً بعد جيل. وأطفال عكار والشمال والجنوب وبيروت الذين انتزعوا من مقاعد الدراسة ورميوا على الطرقات يبحثون عن فتات لقوت يومهم. أي فارق سيكبر بين مجتمعين ؟ .
هنا لا تعبر الاحداث بصمت . لكل رأيه وليس بالضرورة أن يطاع.
“البار ” أو المقهى أشبه بمسرح لملاعب كرة القدم ،كما للسياسيين ، مع قهوة الصباح تحتدم المناقشات وقد يعلو الصّياح قبل أن يسير كلٌ في طريقه.
ثمة دعوات للتمسك بالفكرة مفتاحاً للتغيير. وثمة من يربط تراجع الاقتصاد والنفوذ بتراجع الفكرة بذاتها. عدم القبض على مفتاح تجديدها.
لا يفي شعاع الماضي وحده لنرى النور. فالمجتمعات لا تترهل كأجزاء بل كجسم واحد قوي أو عليل.
المواجهة للسائد تمرسٌ تُروضنا عليه عينُ النقد منذ الطفولة.لا خوف ولا جذل من قول كلمة”لا” ، من صورة محدثة لما نراه وإعادة تصنيعه واقعاً أو متخيلاً، لا حدود لتلك الطاقة على التمرد.
يتكىء جدار “فنتسبا” مدينة البندقية على اليد، وتتعانق الأيدي لترفع الجسر عالياً فوق موج البحر.
ولولا تلك الايدي يرددون ما بقيت حياة في المدينة الغارقة بمائها. لوحات فنية عريقة تشكل جسر عبورهم للحياة العصرية.هي العين التي يرون بها الآخر عبر مرآتهم المتكئة على جدار الماضي لتحديثه.
أتأمل البحر …هذا اللامتناهي ، يمزج ماؤه “الهنا” ب “الهناك” . يروح الزبد ويأتي على صور الاشلاء التي إبتلعها إنفجار بيروت، وعلى التفاهمات ترسم حدوداً لغازه ولنفطه المفترضين، فيما الصمت يلتهم شعباً يذوق مرارات العيش بعدما نهشت كيانه الذئاب التي يتمجد بإسمها.