خاص ” ميزان الزمان ” : سلسلة انعكاس / حلقة 10
“كشفَ البهلول عن أسراره”، من وحي نصّ الوقت لأدونيس.
بقلم الكاتبة : د. لارا ملاك
-+-+-+-+-
كشف البهلول عن أسراره وقال:
الاحتضان هو الموازي الأوّل للأرض حين نحتضن المكان لأنّنا منه، وإن قلّدَنا أعناقَنا وساومَنا عليها. هو المسيرُ إزاء المسير بين الشّعر والرّأس. السّنبلة ما نضحّي به كي نرى من التّراب ما أتى منه فنراه، ونتذوّق النّاس والأشياء بلقمة رغيفٍ واحدة.
علِق الأفول تحت الشّمس، فصار أسمر شبيه عنترة. نحن إخوة الألوان نشدّ على الظّلّ ولا يعيرنا غيابَه عن اللّهب، ولا يسمح لنا أن نحافظ على الأبيض بين أصابعنا وتحت وجوهِنا. علقَ الأفول على الشّمس فما انفكّت تغيبُ، والنّساءُ صريعات الصّراع بين القدوم القديم والغياب المستجدّ.
يا لهب الحاضر قل لهم ألّا يقولوا، فقد قالوا حتّى صُمّ الشّجر. ينظر يتمايل، يرقص، وكأنّ الخوف ما له، وما بعد الخوف جريمةُ السّكوت الكبرى. جريمته أن ماتت الأغصان وهي ناسيةٌ جذورها. قل لهم أن يعودوا قبل أن يقولوا، أو على الأقلّ أن يعودوا. فالوقوف والوقوفُ تعب الأخمصين اللّذين لا يعرفان كيف يقفان وإن كانا أصلًا هنا، أم أنّهما نسيانُ الأرض حضورُ القدَم.
اللّغة يا بني اللّغوِ تضيق لأنّنا نسينا فتح الغين المكتوبة، لكنّنا عبثًا نحاول أن نقفلها في الحنجرة الّتي تُفتح في وجه النّار لتقول لها “إمّا اتّقدي بأنفاسي، وإمّا اخمدي، وإمّا اكمدي من الأزرق الزّاهي إلى الأزرق الواعي”.
أريد من اللّغة معجمًا يعرف من أنا، أو يعرف قاتلي، أو يميّز عظامي وكتلةَ الجسد الشّريدة بين التّكايا، فلم تجد من يصلّيها ولا هي تصلّي. فالظّنّ هنا يا ليل ذاكرةٌ كاملة، والشّكّ ذاكرة الذّاكرة. كأن تقول لامرأةٍ أن تبرّر شَعرها، وأن تبرّر صوتَها، وأن تجدّد صمتَها بإرادتها النّحيلة. كأن تقول لساقٍ مائتةٍ أن تعتذر من الطّريق، لأنّ الطّريق هنا. مات القتيلُ، فماذا تريدون من القتيل إلّا شكوكَ الفوضى من تحت التّراب، وشكوكَ اليقين فوق الغيم.
ماتت الأرض حين أقفلناها علينا، وأقفلنا ذواتنا على السّماء، ونحن ما نحن؟ سوى أن نحنّ إلى النّونين اللّتين لا ترتدّان إلى الحنجرة، ولا تقولانها، ولا تقولهما، فنبقى انفصالًا عن انفصالٍ، فلا نُجمع ولا ننقضي ولا ننتهي.
أين خبز الشّعراء يا معشر الجنّ؟ وأين أودية الأمس؟ وأين التّمثال الّذي لم يقل لنا أن نكون حجَرًا مثله، لأنّه أقدم وأنقى وألطف وأطرى؟
لا تنحنِ كي ترتق الخاصرة والعينين الجاثمتين، بل انظر في السّائرين على قدمين، أو على شبه قدمين. اسأل السّائرين: علامَ يتّكئون؟ وأين ينتهي عمودهم الفقريّ وأين يبدأ؟
اترك ظنَّكَ وسؤالكَ للأحياء العابرين، وتأمّل. هل تعلم من هم؟ هل ستعلم غدًا من هم أو بعده؟ متى سيجمع إنسانٌ عربيٌّ واحدٌ نفسه وشكله كي يستطيع أن يجمع هويّة الأشياء في الأشلاء، وهويّة الأشلاء في الأشياء.
هو المكان، هاؤه الذّكريّة هواؤه حين أنّثنا المدينةَ فقط كي نغتصبها، أو كي ندسّ بين ثديَيها الأنينَ الأخير لكلّ الضّحايا. وهي الخارطة وهمُ المكان تبسط لنا السّهلَ، ليقول لنا إنّه هنا، وإنّنا مع الهُنا فوقه لا كي نلعب أو نطلق خطواتنا سهلةً كاسمه، بل كي نسير عكس بعضنا في سهلٍ واحد. أن نحصد من الحَبّ قشره كأنّه بلا لبِّ، أو كأنّ الألباب لم تكن كي نكون.
هل هذا سهلٌ؟ أم يباسٌ سهلٌ حين تعبت الفصول حتّى أجهشت في نزفها؟
هذه الجثّة ريحٌ تمشي في الذّاكرة على هوادتها، وتطمس ما كان..
هل كان ما كان؟ أم هو الوهم ما يبقى فلا نعود إلى الوراء ولا نعود إلى الأمام؟ أريد جثّة العبثِ كي أقول لها من أنا وكيف مشيتُ قبلها متوازنًا، وكيف انبسطَت تحتي الحبالُ ترفع عنّي الهاوية وترفعني عن عبئي. أنا العربيّ من يحملني عن جسدي ومنه؟ ومن يقول لي هويّتي، فلا يندم جسدي على شكله وعلى غرور اكتماله، ولا يندم على محاصرة دمي قبل أن يُزهق للهواء. أليس للهواء شرايين، أو قلبٌ، أو بعض نبض؟ ألن يخفق مرّةً كي يغضّ طرفًا عن موتي حين تشتهيني مقصلة أخي المستوية على قدمين؟
أحاطت اليابسة مصادفةً بدموعي، فحاصَرتني. لم أرد أبدًا أن أبذل لهم حزني أو أن أجاهر به حتّى. لم أرد أن أصارحهم بأنّي حزينٌ حزين، وحزني الأوّل لا يشبه الثّاني، وبأنّي قولٌ مضمرٌ بين عيني وعيني، لكن لا جفن لي كي أرتجف. أتمسّك بأرَقي، أتسمّر به، وتحتَ الوسادة لي ما أريد من إلهي. فأنا ياؤه، وهو الهاء في سرّي وفي ولَهي الخافت، وفي موعدي التّائب عن الوقت كلّه. ولي أنا ضحكي حين يمرّ الشّخص القتيل ضاحكًا على دمٍ وريح. ولي نصّي ألفظه كما يلفظ مجنونٌ تأوّهاتِهِ، فلا هو يجنّ أكثر، ولا هم يعقلون. ولي السّؤال الّذي أبتلعُه بعلامة استفهامه، فلا أشبع ولا يشبع أو ينضج فيّ طعامي. ولا يشبع فيّ جدّي، ولا يجوع.
فالمشيبُ انتظار العرّاف القديم. عرّافٌ ينبش في الذّاكرة، وفي النّسيان، ولا يراني أطِلّ من الآن من آني، لكنّي أراه يمحو بعض يدي عن الكتابة، وبعض جلدي عن المقعد، وبعض الأحمر من دمي. لكنّي آنُ هذه الآنِ، وبُعدها، وعُريها، والتباسُها المغري. كأن تقول للفزع كم تعرّيتَ من أجله، وانتظرتَ بشائره، وهو بلا صبحٍ ولا عشيّةٍ. يمرّ غير عابئٍ بقياس الرّمل في ساعات الرّمل، ولا بالخصر الّذي يضيق حول اللّحظة كأنّه أنثى هاجمَتها الفجيعةُ فاستسلمت ثمّ ندمت كثيرًا. هو النّصّ مربّعٌ، وهوامشه أكثر من أربعةٍ، وأكثر من خمسةٍ، وأكثر من زيادات اليسار لليمين واليمين لليسار. والكلمات تبوح من وادٍ إلى وادٍ، وتَنسى ولا تُنسى.
الاحتضان جسدٌ تكوّم على جسدٍ فيه. يدان تجتمعان بأناةٍ، ولا تنفضّان. فالعزوف تربة النّادمين، والنّادم تخلٍّ شرسٌ عن الذّاكرة. كأن تندم على استدارة ظفركَ مقابل القمر وقد اكتمل، أو أن تشتاق لجسدٍ آخر سواك، أو أن تفتح رئتيكَ للرّيح كثيرًا حتّى تندم على الرّيح.
الجسد أرضٌ تسامَت، شجرةٌ مشت حين رسم لها النّهر من هي، وحين قال لها كيف تكون وكيف تسير أو لا تسير. الجسد مشي الأرض الدّائريّ في أحشائها، مشيٌ داخليٌّ حرٌّ أنكرَته الضّلالة. كأن يلتفّ الماء كثيرًا كي يسقي نفسه، فلا يجوع. كأن يصير الرّماد حطب الوقت، فيشتعل تاركًا للأشجار خُضرتها وأفقها.