السبت الثقافي
قراءة الكاتبة والاعلامية دلال قنديل ياغي
-×-×-×-×-×-
“خريف البراءة” رواية الشاعر عباس بيضون الصادرة عن دار الساقي عام ٢٠١٦ تخرج بلغات متعددة.
خُطت الرواية في خضم القتل داخل الاقفاص، حرقاً وذبحاً بحزّ الرقاب، بتفاخر امام عدسة الكاميرات، عبر إبتكار انواع التعذيب تحت راية” الله اكبر”.
حياة الإنزواء التي اختارها غسان الشخصية المحورية في الرواية تدرجت بين التمرد والعزلة.
يحادثُ نفسَه ،هو الحوار الغالب في الرواية، يوغلُ في محاورتها ، يتردد قبل ان يُقدم دون أن يُقاد لما يريده له الآخرون.
صمتُه بات في لحظة مفاجئة، ميلاً الى الذهول.تضارب صوته مع الصوت الآتي اليه من وراء الموت.أدهشه الصوت الذي يصله عميقاً ، صافياً، يخترقه، يدرك أنه صوت والدته المتوفاة ، بالكاد يَذكرها. الصوت صوتها…
أعرفه يصارح سامية إبنة خاله، القريبة منه حيناً والمتلاشية حيناً آخر بقرار إبعادها عنه، باح بسره
” القبر عم يحكيني ” .
خنقها والده بيديه الغليظتين ،توارى عن القرية .هرب ثم عاد تائباً، مستقوياً بالشريعة الإسلامية لإنشاء إمارة يُولي نفسَه عليها.
بهذا التدرج المفخخ بالأسرار، المشغول بالاسئلة المترددة، الصامتة، التي تعتمل في الداخل حد الغليان قبل إنفجارها،نجد انفسنا أمام المرآة عراة .نحن وموروثاتنا ، وجهاً لوجه.
ضَبطُ الوالد عشيقاً في فراش الوالدة ، حِيكت حوله حكايات في القرية. قد يمهد لغسان للبحث في سر الموت الذي جعله يتيماً مشتتاً، عاش في بيت عمته حيث تلقى ضرباً مبرحاً على أيدي اولادها.لم تنفع تدخلاتها لحمايته.ثم انتقل الى منزل خاله.
غسان الملتبس إزاء رواية وجود العاشق لم يشعر بأنه يكره والدته ولا يَحمل مشاعرَ لعشيقها.هكذا ببساطة.
أصبح منزل والديه على صورة قبر، لا بل مقبرة وُضع في حديقتها ضريح والدته ، ولاحقاً الى جانبه ضريح إبنة عمته بشرى التي كادت ان تصبح بحكم الاعراف زوجته ، لولا خطبة سريعة، وموت مفاجىء رأت فيه عمته إنتقاماً إلهياً من صمتها على جريمة شقيقها.
يبني عباس بيضون الشخصيات ويفككها أمامنا بإسلوبه المعهود ، بتسلسل الحبكة ، والحث على إبقاء العين متفتحة بجمل تحمل مفاتيحها.بالتراخي على الأحداث المُستفز بالاسئلة لإستكشاف لماذا ..ومابعد؟
غسان المنسحب من الحياة لأشيائه الى عزلته وعالمه الخاص.مشاكس على طريقته ، رافضاً الإنغماس بوجاهة السياسة وعلاقاتها التي أغوت سامي صديق عمره.
في لقاء بعد نجاته مع إبنة خاله سامية صارحته بتعلقها بوجوده بعد موت سامي، لا بل قبل موته،لم يتلبس غسان صورة الحبيب ولم يزحها عنه.التقى سامية وإجتمعا معاً بأصدقاء سامي ليخططا للإنتقام.قال لها قبل مواجهته الأخيرة مع والده غسان” أنا ملزم”.
الإنتقام من مسعود لسامي القتيل بنظر سامية ليس ضرورياً .”اشقاؤه اولى بهذا الإنتقام.” قالت .
أما حساب مسعود مع غسان فمفتوح على جريمة ثأر ورثها عمراً من اليتم والشك بخيانة والدته وبصحة أبوة مسعود .
بعبارة واحدة، قادنا غسان من التردد الى المواجهة، مهد لخسارته أمام خصم شرس لا يرحم. لكنه تجرأ على الموت وذهب اليه بقدميه.اتخذ من صِبية شركاء له في الهجوم على القرية المحصنة ، اختاروا يوماً للإحتفال ليتسللوا وسط الجمع ويسددوا بثلاثة مسدسات رصاصات الى مسعود اصابت مرافقه.
رسم الكاتب لشركاء غسان بالتنفيذ صوراً كرتونية ، كاريكاتورية ، بعد تدريب في مزرعة قرب القرية .
جماعة” أبي ثائر” التي قوضّ سلطتها مسعود وأبعدها عن قريته المحصنة بالرايات السود وأحكام الشرع ، بدت قبل ذلك، هجينة ، صادمة . يوم لبّوا دعوة سامي المأخوذ بجاه الساسة وألاعيبهم . إستعدت سامية واهلها بأفضل ما لديهم فإذ بالمدعوين يحضرون كلابهم الى موائده، لتفرغ قذارتها في صالة إستقباله الضخمة وتفوح منها الروائح .
سامي الذي خطى نحو الزعامة ، هو نفسه من سقط في فخ مسعود إعداماً بالرصاص .مات سامي يوم إصطحب غسان الى مقر والده مُنشداً النجاة من سطوة جماعته، وربما التلطي تحت جناحها.
تجرأ غسان على مسعود
بعدما أدان نفسه وبرأ زوجته امام اهل القرية.”غسل إثمه بالدموع”. قال إنه قتلها على مرأى من عمته بشرى، في لحظة غضبه العارم وإنها طاهرة لم تخنه ولم يكن من عشيق يُقتفى اثره.
يذوب السؤال الاعمق الذي حيّر غسان في طفولته.عن شكل العشيق وإسمه وطوله وكيفية فراره .
في لقائهما الاخير اقر مسعود لغسان بأبوته ايضاً، قال غسان :” إنه يشبهه بالشكل لكن لا يلتقي معه بالأفكار”.
تتكسر المرايا واحدة خلف اخرى، والضحية حكاءة بصوت اهتدى اليه غسان داخل منزل والديه يخرج من سوار وقرطين ذهبيين .
إستراح مسعود من عقدة رجولته وذكوريته المطعونة التي اودت بحياة أمه.
قارئة المستقبل بعينيها المفتوحتين على ماضي زوجها العاجز، القاتل، الذي “لا يشبع دماً”تُحذر غسان منه.
أراد لولده ان يكون وريثاً لحكمه. دعاه للإقامة والتمعن بالدين.
صوت والدته يعود اليه وهو في السيارة خارجاً من ذاك السجن المحكم الاقفال:
” إهربوا كلكم”
الوالدة، رسمت له طريق الخلاص ولعائلة شقيقها.
أجبرتُ على الزواج منه ” لم احبه لكنني لم أخنه” قالت لغسان بصوت سوارها والقرطين.
بصوتها المخنوق ،تزيل إلتباسات الاساطير التي تُكتب بحبر جبروت الأقوى.
هكذا تتهاوى المرايا كلما اوغلنا في الصفحات المئة وتسعين صفحة ، لنرى حتى بشرى العمة، المتواطئة بالصمت على الجريمة شخصاً هزيلاً لا حول له ولا قوة.هي المكسورة بموت إبنتها ،بشرى تلك الجبارة ، التي صمتت امام هول إغماد شقيقها مسعود يديه بعنق زوجته دون أن تُحرك ساكناً.كان كرهها لها يغالبُها منذ رفضت” إبنة الدكنجي” مسعود إبن عائلة “الشربيني” العريقة خطيباً لها. مضت وتركت جارة الوالدة تكشف الجريمة ليتوافد الجمع وأهل الضحية
إستمعت لغسان يروي لقاءه الاخير مع والده ،مصارحته له بأنه يبطش بالناس واهالي القرية الذين يخافونه ويكرهونه.إستمعت بحنوٍ لإبن شقيقها.تذمرت من مسعود ومن أبنائها معاونيه .
بلغة محكية متداولة غير عصية على اللغة الفصحى، يدهشنا السرد بتتبع الشخصيات. تضيق روحها بأعمال شقيقها وولديها، تخجل من اهل القرية. بشرى المعتدة ببيت الشربيني.يأتيها شعور الخزي والعار من الإستقواء بالقتل على الضعفاء،صورة غير متوقعة.
الرواية تعيد رسم مساراتنا المختالة بين الوهم والحقيقة . رواية تُعلي المرأة المقتولة ، المخنوقة، المنزوعة الإرادة. لكنها ايضاً المرأة الممسكة بخيوط اللعبة ، المتخفية.
على الشاطىء حُز عنق غسان على يد إبن عمته بشرى، نجا مسعود من محاولة إغتياله الفاشلة.بقيت الرايات السود ترفرف .كأن مسلسل القتل تحت عباءة الموروث والظلامية و”التكفير” يبقى سيد الساحات الى أن يأتي ربما من ينصت لصمت الموتى ينده بإسم قاتلهم؟.