طرابلس مجددا
تعود طرابلس من جديد إلى الواجهة. تعود طفلا مشردا متسخا. تعود طفلا كئيبا. تعود مكتبا مكتئبا للرسائل. في الداخل وفي الخارج. إعتادت طرابلس هذا الدور منذ العشرينييات من القرن الماضي. بعد إنفصالها عن بلاد الشام. وصارت تعرف: “طرابلس- لبنان”. إعتادوا أن يجعلوا منها مكتبا، جاهزا، في كل وقت. في كل ظرف. لإرسال الرسائل إلى الجهات التي يهمهم أن تصل إليها الرسالة ساخنة. رسالة مطبوعة بطابع الدم.
طرابلس مجددا، تعود شيئا فشيئا لوظيفة “فتيان السلطان” الملحقة بالسفارات، بالجبهات، بالدول ذات النفوذ، بالرجال الطامعين ب”القبضنة”، الطامعين بالإنقلابات. يتخذون من تهشيم الأنوف صنعة لهم. ويقومون بإحداث الفوضى، إذا ماطلب هذا الأمر المنكر منهم. ويتعهدون الفتنة بالخروج على السلطة، وعلى الدولة، وعلى الأمن في البلاد. لبعث روح الرعب والعبث بأمن المدينة، والعبث بأمن الناس. لتكون الرسالة قد وصلت إلى الجهة التي يراد إرسال رسالة إليها، ممهورة بالدماء.
طرابلس مجددا. مدينة مقهورة. مدينة مغلوبة. مدينة فقيرة. مدينة مهمشة. مدينة تحت خط الفقر بآلاف الدرجات. تتقدم إلى المذبح، ذبيحة رخيصة. شبابها يذهبون إلى الموت، بحثا عن لقمة. بحثا عن رغيف ساخن. بحثا عن مأوى ذي سقف، ولو في “حي شيشبوك”. فتيانها، للضرب في الطوابير. في الزقاقات. في الأحياء البائسة. وفي الطرقات الضائعة، على مفارق التاريخ. على مفارق البؤس والجوع والهم و”التعتير”.
طرابلس مجددا، مدينة تعيش في ظلام القبور. أبناؤها مشردون في أحيائها. يقطعون وقتهم في البحث عن شمعة. عن قنديل. عن خيط من خيوط الشمس. من خيوط النور. ظلام دامس، هو يومهم. ليل مدلهم. لا يجدون فيه بصيص أمل. لا يجدون فيه أدنى عيش. لا يجدون فيه أدنى كرامة، لفتى يبحث عن كرامة. وعن دفتر . وعن كتاب مدرسي. وعن ملعب يقطع فيه وقته، حين يأخذ فرصة بعد حصة ولو صغيرة من الحصص المدرسية.
لا وقت لطرابلس، حتى ترسل الأبناء إلى المدرسة. حتى ترسل الأطفال، إلى رياض الأطفال وحادقاتها. مدينة تعلم الشذوذ. تحضر الشذاذ. يأتي إليها الراغبون من الأفاق. يأتي إليها الأفاكون، من كل الآفاق يجندون من أبنائها كتيبة جاهزة للضرب في الآفاق.
طرابلس مجددا، خمسون عاما من الخروج على القانون. معارك طائشة في الأسواق. أحياء عظيمة برسم التهجير. طوائف. أحزاب. مذاهب. للقتل على الهوية. وللإغتيال في الطريق. طرابلس مدينة نموذجية، للفوضى، للإرهاب، للإغارة على الدولة. للعب على المشاعر. للعبث، حين يكون العبث مطلوبا. حين تكون الفوضى، ضريبة. حين يكون الحبل مضطربا. طرابلس مدين نموذجية للإحتيال على القانون.
دالت دولة طرابلس منذ مطلع القرن الماضي. فقدت مصانعها. فقدت سكك الحديد التي تربطها، بحلب وإسطنبول وأوروبا وإنطاكية. فقدت مصافي النفط. فقدت مرافئها. فقدت مطارها. فقدت معرضها. فقدت إتصالها بالجوار، فلم تعد مدينة للجوار القريب، ولا للجوار البعيد. ولم تعد مدينة لأبنائها.
طرابلس، هجرها أبناؤها من كافة الطوائف. من كافة المذاهب. هجرت كنائسها. هجرت مساجدها. وصارت مصائف أبنائها مهجورة، لضعف أبنائها.
طرابلس، لم تعد مدينة سياحية. فلا زوار يأتون إليها، في المواسم. قلعتها مهجورة. وأبراجها السبعة في ساحلها، خربتها الأيدي الخبيثة. وميناؤها، لم يعد الأول على الشاطئ اللبناني. وحاراتها خربة. لم تعد فواحة بعبير الليمون ولا معطرة بزهر الزيتون والزيزفون. ولم يعد نهرها، كما كان الناس يرونه في أيام مجدها. طرابلس، لم تعد أمنية النفوس، التي تطلب الهدوء والسكينة والإطمئنان. طرابلس صارت مدينة خربة. طرابلس صارت تعد بين المدن الأكثر فقرا، على ساحل المتوسط.
لم تعد البواخر تزورها. ولم تعد صوامع القمح، إليها. هدموها، كما هدموا صوامع بيروت، ليجعلوا الشعب كله، على أبواب الجوع دفعة واحدة.
طرابلس مدينة منكودة الحظ. عادت بعد خمسين جولة من القتال الطائفي، مدينة ترسل رسائل سوداء، إلى كل الجهات. عرف فيها المجرمون، نقطة ضعفها. فوصفوها لكل راغب في إرسال رسالة رخيصة إلى خصمه، في الداخل وفي الخارج، على حد سواء. طرابلس مجددا، مدينة لجولات الرعب في شوارعها وفي ساحاتها. وكل جبابرة البلاد يشمتون بها.