مقالة السبت :
بقلم الكاتبة والإعلامية دلال قنديل ياغي
-×-×-×-×-
“في عيد ميلاده الثاني والستين-عيد ميلاده الاخير، يا لها من عبارة مؤلمة – كنت معه وكارول ورفاق آخرين في منزل صديقه مايكل زيلخا في هيوستن، وقد تم تصويرنا ونحن نقف على جانبي تمثال لفولتير.وهذه الصورة هي الآن واحدة من أغلى ممتلكاتي.أنا وفولتريين إثنين”
بهذه العبارات كتب سلمان رشدي رثاء صديقه بعد ان إستفاض في وصف علاقة وُلدت في فوضى” تكفيره” ودفاع شريحة من المثقفين عنه وعن حرية التعبير وكان أحد أبرزهم الكاتب الصحافي العالمي كريستوفر هيتشنز.
الكتاب الذي ترجمه حسين رياض للعربية متضمناً مقالات ومحاضرات لهيتشنز أرفق بشهادات مقتضبة لأقرب المقربين من أصدقائه بينهم رشدي نفسه .
“الحفلة التي لا تنتهي “كتاب مكثف لمجموعة محاضرات ألقاها كريستوفر هيتشنز في خضم معاناته جراء إصابته بمرض السرطان .
الكتاب صادر عن دار” نابو” للنشر، والتوزيع في العالم العربي لدارالتنوير،صادم في جرأة الكاتب بمواجهة التعنت الديني ويكفي أن يسأل في إحدى محاضراته “كيف يُسمم الدين كلّ شيء؟” لنشعر برغبة في إستكشاف ذاك المفكر الذي قلما تناولته صحافتنا او تُرجمت كتبه.بل حتى لنحيي التجرؤ على نشر ما يثير الجدل في فترة محتدمة بالأحكام المطلقة كالتي نعيش.
يتناول الكتاب في سياق عرض المحاضرات سيرة معاناته مع السرطان وتلك المواجهة. رحلة آلامه التي تسلح بالتجاهل بداية لمواصلتها الى أن تغلبت عليه تلك الخلايا المسرطنة.
“يؤسفني أن اقول ، لن يهتم الكون ولن يعرف في حال إنقرضنا نحن.علينا ان نواجه ما نحن فيه وحدنا، بمساعدة الثقافة والمعدات الفكرية والأخلاقية التي إكتسبناها او التي حصلنا عليها او التي كانت بمثابة هبة فطرية لنا.
إليك طريقة اخرى يسمم فيها الدين الأمور،فهو يقول حسناً، دعونا نكذب على انفسنا بدلاً من ذلك، لما لا نتظاهر بأننا خالدون ولا نموت؟ او ان نحصل على استثناء في حال قمنا بتقديم الكفارات والقيام بحركات جسدية صحيحة.”
لا يتمحور الكتاب بمحاضراته والهوامش على الدين كمعتقد وسلطة ، بقدر ما يتناول الحرية ليس كمفهوم أو ممارسة فقط، بل كسيرة ، تمنح القوة على مواصلة العيش وكبح جماح الأمراض للفتك بأجسادنا.
نرافق رحلة التجرؤ على المعاناة بالإنكار اولاً ، ثم بالمكابرة الى أن يحين وقت الإستسلام.
“الحفلة مستمرة لكن عليك المغادرة” ترميز آخر بأن اللعبة مستمرة والحياة لا تتوقف .اللاعبون على مسرحها لا بد ان يتبدلوا.الفكرة مسّوغة.
يقول :”هذا هو التفكير الذي أظن أنه يزعج معظم الناس عندما يفكرون بموتهم.”
بأي فلسفة نواجه الموت خارج فكرة الاديان؟
نتلمس من الكاتب إجابة “الحقيقة المتخفية التي تكمن داخلك، كونك مريضاً بمرض قاتل، هي انك ستقضي وقتاً طويلاً في إعداد نفسك للموت مع مقدار ضئيل من الرواقية في اثناء وجود من تُحبهم حولك.في الوقت نفسه ستكون مهتماً جداً أن تنجو وتنفذ بنفسك من هذا المأزق، ان هذه لطريقة جد غريبة” للعيش”،
“محامون يزورونك في الصباح، أطباء في فترة بعد الظهر، هذا يعني ان على المرء ان يقسم ذهنه فيما بينهما، بل وعليه ان يعتاد العيش بازدواجية.ينطبق هذا الأمر ايضاً على الذين يصلون ويدعون لي بالشفاء، من المجتمع نفسه الذي يريد لي أن اتعرض للتعذيب هنا والآن إن شُفيت”.
عبارات تبعدنا عن نظرة آحدية الجانب لكاتب صُنف على النقيض منهم ، أي المتدينين ، المتشددين.
تجاسر الكاتب على مقارعة الأديان بالانعتاق من سلطتها،يترك هامشاً إيمانياً خفياً في صور متعددة يستشهد بها في محاضراته بينها الجواب الذي نقله عن الفيزيائي الدانماركي الحائز على نوبل نيلز بور ، لدى سؤاله عن وضعه ثقته بالخرافات المثيرة للشفقة وتعليق حظوة حصان على بابه بإجابة مفعمة ومختصرة:
“لا، انا لا أؤمن بها،لكن يبدو انها تعمل سواء صدقنا بها أم لا” قد يكون هذا الاستنتاج هو اكثر أماناً “…يعلق كاتبنا هيتشنز.
الكتاب على صغره، مئة وسبع صفحات من الحجم المتوسط،متضمناً المقالات الثمانية الأخيرة للكاتب التي وردت تحت عنوان “الفناء” ومحاضرات اخرى،كتاب إشكالي ، مثير للاسئلة في اكثر من إتجاه.ليس عن العلاقة بالفلسفة والدين بل يتعداها الى سؤال الحياة وإستمراريتها، وجدلية سيرورة الجسد ومصارعة الموت في معركة تراكمية يومية.
وما نفع الكتابة إن لم تكن زلزالاً يخلخل ما سبقها من معتقدات؟
إما أن نتمسك بالإعتقاد بيقين، أو لنبتعد قليلاً بحثاً عن رؤية تمنحنا نقاء ما بعد الشَك…وتلك فضيلة الكتب.