وسادة لرأس الجبل
يستحق هذا الجبل الأرعن في أعلى قريتي، أن يتوسد ذراعي. أن يتوسد يراعتي. ان يتوسد براءتي. لطالما غفوت تحت شجرة سنديان معمرة، على مفرق رأسه. على مفرق شعره المصفف عند مزين أبله. يبلله في الصباح بالندى، ثم يكويه عند الظهيرة، ثم يسرحه قبيل الغروب. قبل أن يذهب إلى السهرة معي. أحمله في عبي، وأمشي به مزهوا بين القرى. فتنتفث سنديانة رأسي، تريد وسادة من قطن الغيمات المتجمعة في الأعالي. ومن شالات الحرير التي تنسجها، بإبرة الريح وصنارة الوقت، وشعاعات ضئيلة من شمس تستحي أن تغيب.
يستحق هذا الجبل الأرعن، أن يزهو بشبابه الدائم، مثل موجة من صخور البحر، نساها خلفه، حين رحل، بعد عناق طويل. رمى بذور السنديان عليه. غرس شتلاتها الصغيرة في شقوق الجلاميد، في أفواهها الفاغرة، وفوق أكتافها المنجمة، مثل كتفي جنرال، يريد أن يأخذ صورة رسمية له. يعلقها على جدار بيته. يأنس بها زواره حين يغيب.
يستحق هذا الجبل في قريتي أن آخذه معي في رحلة. نبتعد قليلا عن ضجيج الناس. نطلب الهدوء في بطن واد، تسرح فيه نبعة. حواليها نعجات صغيرة من الدفلى والصفصاف والطيون. والزيزفون. تطير إليها الحساسين. وترفرف عليها الفراشات، وتداعبها السنونوات بأراجيحها. ويطن فوقها النحل، بسمفونية، تسيل موسيقى وشهدا وعسلا وخيوطا من أريج نبات، لصق بسكرة القلب، فما عاد يطيق الفراق.
هذا الصباح الباكر، ما أعاقني الليل أن أسري إليه. أجعل منه قبعة لرأسي. وأهيم بين التلال وبين السفوح. أمتطي قصبة، كنت أهر بها النجوم على وسادتي، فينزل من عيوني عسل العيون. كنت أسرح بها إلى الأقاصي البعيدة، أقطف نسيمات الصباح، قبل أن تحلو الشمس، غزالة فوق التلال. فوق الهضاب. كنت أمتطي قصبتي، مثل فارس على جواد مطهم. على براق. مد جناحيه وطار. جبل أرعن طاقية لرأسي، فرد شتوله من السنديان. غرزها في أفواه صخور، لا تشيب. لا تموت. والأولاد، تبعوني. ظنوا بي مهرج الأولاد. الضفدعات تصيح بي. قرع نقيقها رأسي بالكلمات، فأفرخت شتولا من سنديان، لا زمان له ولا مكان، إلا في رأسي منذ ستين عاما. وبعض سويعات وبعض ثوان. وبعض عويل. وبعض بكاء.
عن جبل أرعن، جرى في مدمعي هذا الصباح المبكر. سرحت شعره كطفل يذهب إلى المدرسة. جففت شيبه كعجوز خرج من المأوى. رميت عليه مريولة الكتابة والحروف. والأبجدية. قال إني أشهد.
عن جبل، قال لي هذا الصباح: خذ ذراعي مني. أريد أن أتوسد.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.