خرافية اللغة
رغم عراقة هذا النوع من الشعر عند الشاعر شوقي أبي شقرا، الذي يقص اللغة الخرافية، منذ مطلع حياته الشعرية، مستندا إلى إبداعه الذاتوي وثقافته المتناسلة من الإستطراد، ومن التداعيات، ممعنا في تقصي اللغة حتى أطرافها الشفاهية، فإن جديده، إنما هو هذا الديوان : “شوقي أبي شقرا. أنت والأنملة تداعبان خصورهن. دار نلسن. بيروت2022. 275 ص. تقريبا”. يحاول فيه شاعره، ضبط الخرافة الأسلوبية. وكذلك ضبط مضمونها و ضبط سمتها العجائبية ورمزيتها في رصد الحياة والناس والطبيعة.
( ننهمر ونسقي أثلام الجبين وفوضى المأدبة والضيوف والفنون وكرسي السينما والتلامذة الحروف والمعلم يتبلل قميصه وقلمه ويفتح الدلو طربون حبق/ والثور ينطح لوحتنا ويعبر الحائط/ ونتنازل ونطرطق نحن الكلة/ و تنضم الدموع والكوميديا/ وتتناهى على بلادنا ونحن أقارب الشتاء/ نتكلم على الطبلية في حضور جبنة الغفران/ وأول قربانة لنكسر سياج الشوكة ليخف الميزان بنا وعذاب السهوب. ( ص7).
لا سبيل لتبين البدايات الشعرية عند شوقي أبي شقرا. لأنه ينسج الخرافة شعرا. يصر على مثاقفتها شفويا. مصرا على قدامتها. مصرا على الإتيان بها إلى صدور قصائده، أصيلة عريقة، كما المرويات في حفلات السمر، لدى الفاتحين، خلال سنوات غزوهم الطويل.
(لا يطفئ الجمرة وشين الشوق/ والآتان حالمة الدار/ والخرج يغذي المنطاد بالخوخة/ والماء هدية إلى قميص الإغتراب/ وإلى الأدغال لتزهر أفكارنا.(ص 21).
نحن إذن، مع شوقي أبي شقرا، في صيغة جديدة للغة. صيغة خرافية لحكايات ومرويات وقص شعبي. ولأخبار ملوك وعشاق ورحالة وجرار تملأ النبع ماء. ولعجائب بحارة وبحار ومهمشين وشطار ومغامرين وعيارين يسكنون معه في القصيدة في اللغة. في الخرافة.
( على شاطئ الحميمة غرفتي ومفترقات الأنا/ وصحن حديقتي بقرة ومعي النمر والرسمات/ والرصينة الأدغال ضد الهيبة/ والذات اللبوءة تهوى كثافة الشطرنج ولا فأس/ ضد الخزامى الفواحة.(ص30).
يصوغ شوقي أبي شقرا قصائده، مما حفظته الذاكرة الجماعية من أوهام وأحداث، قالته اللغة بالخرافة. فهل هناك من فرق عند صاحب: “أنت والأنملة تداعبان خصورهن”، بين القصيدة والخرافة. أليست الخرافة قصيدة. أليست القصيدة خرافة رمزية.. كل ذلك يصح عندما تتداول عيوننا أو أسماعنا معنى الشعر خرافة عند شوقي، وكذلك معنى الخرافة شعرا.
( ينتهي بنا إلى مداد النهى/ ونقرفص ولا تصدقنا العنزة/ والمرقد يخلو من الريش/ ومن صابونة الإنزلاق/ على الكائنات ركاب العربة.(ص57).
مع قصائد شوقي أبي شقرا، كما في جديده، وكذا في قديمه أيضا، نقف مع شاعر خرافي. يتجدد كل عام، كما “حية الجنة”. يوسوس لنا بضرورة مساءلة إشكالية هويتنا الثقافية، لا كملكية شخصية لهذا المتن المتعدد المشارب. المتعدد الينابيع. المتعدد الجداول. وإنما كأفق ثقافي للغة خرافية، تأتي من وراء العصور التي هجرتها إلينا. فيواصل “أبي شقرا”، إشتغاله لتفكيك الحكايات. وتفكيك الهواجس. وتفكيك عجمة اللغة وعجمة الخرافة وعجمة الإنسان المصاب دوما، بداء العي. بداء السرد المعجمي، لا بالسفر إلى الأقاصي، مع الخرافة.
( ياقتي ودميتي يا ترى تبردان/ من همسات الشباك/ وحنين ذراعي إلى سواي/ وفي البقجة حديث وصالي وعيناي/ على الثرى ومساح سرجي/ ولا أبالي ولا أسأل الصالة/ عن الفيلم عن معطفي/ بأي سيف تمزق. (ص74).
فتوحات معرفية متعددة داخل الحصن المتوهم للمعرفة الخرافية عند شوقي أبي شقرا، جعلته يرسو على شاطئ عينيه، غريبا عن المتداول من الشعر. وغريبا عن المتداول من اللغة. عاد إلى كهفه. كهف الذات. كهف الشاعر. ينسل الخيطان من الأثواب البالية المهلهلة، وينسج منها خرافة تحلق في سمائه. تطير معه إلى حيث شاء أن يطير. ويحط هناك على جنح لغة جانحة: يصنع منها جائحة…
(التلميذة هي العواصف تقرأنا/ ورجلاها في الجزمة في الثلوج/ وتكتب السطر والنقطة وتحفرنا/ وهل نحن المغارة أو الحصان ولا يفعل/ ولا يجرجر أحدا ولا يناطح البحر/ حيث الأركيلة تؤركل حافية/ وحيث الراحة والحلقوم والمقهى وأوبرا الكركة. ص111).
كل الأسبقيات التي أتت قبله، ربما صنعت التوفيق المفتعل لغيره، وإنما هي عنده، مطامير، تنبت فيما بعد، لغة تطير مع الخرافة. وخرافة تطير، إلى حيث تشاء رياح اللغات.
( القبعة فلينة وأنهض والكرمة/ لأبصر الصارية وقبلة الشمس/ وأن أحضن مصيري/ ولا يراني القراصنة. (ص125).
نقرأ لشوقي أبي شقرا، فنقر له بأهليته أن يكون حكيما. أن يكون فيلسوفا. أن يكون حاكما. مادام – كما نراه- يقيم جسور التواصل مع اللغة على أساس من خرافة التاريخ. وخرافة الجغرافية. وخرافة اللغة. وإزاء تشابه النتائج لتشابه آليات التفكير العقلية عنده، نراه يثري المشترك الإنساني، خلافا للشعر الآخر. يكسب القصيدة فتوحات المعاني التي ليست بنظره سوى ضرب من الخرافة.
( ليل النفس غير الذي يباع/ وعليه يرتمي السوق وأصابع الدلالين/ سيأخذ ليل الروزنامة/ والتلامذة الرهبان من الأسرة ومن البخور…/ إلى حيث القصر والفجر يكتب المحضر. (ص164).
غاية شوقي أبي شقرا، أعظم من قصيدة، يصفق لها السلطان. تسكن عينيه. وتستكين على أرائكه. شوقي أبي شقرا يغير المعادلة: يريد أن يعيد ترميم الفراغات الناشئة في المعاني. يحاول صناعة المستحيل، لمراجعة تضيء العتمة في الدروب غير السالكة. يفتحها على النهايات. ويفجر الآفاق المستسلمة.
( وعن القبطان الأخير أحدثك/ يرسم دولاب النجاة/ ولا أحد سيغرق في بحر الكلمة.( ص185).
ينقلب شوقي أبي شقرا على التضخم الذي عرفته اللغة الإقصائية. و”القصيدة الداعية”. والخطابات الدعوية. ينشيء في قصائده، وفي ديوانه، ملتقى الذوات المتغايرة والمتحاورة المشبعة بقيم التعددية وكيفية إدارة عادلة للتوازن النفسي. وللتوازن الإنساني. وللتوازن الشعري بالخرافة اللغوية. ويعد لإختراق التوازن الثقافي.
(قناعنا في كاراج الصيدلية/ موجوع ويربط الدمعة المقهورة الجنان/ إلى وتد الضحكة/ ويشرح سريرة الفاكهة ومازة الطاولة/ ويدعو من وراء البحار/ وراء الغيث ودخان الزعل/ إلى زورقنا هو الجائع إلى سمكة الأمثال والمجذاف/ والنهاية صورة قطة…/ ومن الدب رقصة الثلج والغابة.( ص209).
يطرح شوقي أبي شقرا جميع إشكاليات الحيف والتفاضل بين المكونات الإنسانية والإجتماعية. كأنه يريد إبداع حداثة إنسانية أممية أو أسروية لا فرق. تتفاعل مع الحداثات الكونية، على قاعدة من الإختلاف في التعدد. تساعد على تفكيك التعصب. وتفكيك مقالات وخطابات إقصاء الآخر المختلف.
( بالدوام بالعقربين ويرتمي الجنود على الفرصة/ وينهض الوروار إلى أغصان اليقظة./ ورئيس المائدة على نحيب الملح.( ص 218).
يرى شاعرنا للقصيدة وظيفة الخرافة، في بناء الآفاق، لا في بناء العروش. ولا في بناء القصور. لأن أبي شقرا مبدع ذاته. وهو يريد إبداع العالم على طريقته في إبداع الذات.
( العنزة هي عمتي/ والبنان اللذيذة الويسكي/ كأنني على الكأس وأقول لها ألا تشربين العرق؟. ( ص 235).
ينتج شوقي أبي شقرا الخرافة شعرا. ليجعلها تطير فوق الفوارق والحواجز. يلح على إنتاج ثقافة بديلة. ولذلك نراه يطرح الأسئلة، بدل أن يصنف نفسه داعية. فلا يريد للشعر أن يصاب بداء “التكلس”، وإنما أن يظل خرافة، في عقول المبدعين. بعيدا عن النموذج القديم الذي كرسه التوظيف السياسي. إذ الشعر عند شوقي أبي شقرا، سفر دائم وراء آفاق لا تنتهي. وعبء ثقيل ك”نبوة” على الذات.