“عامية ١٩٠٢ ” جديد الكاتب الأكاديمي طوني سلامة.
قراءة بقلم الكاتبة : دلال قنديل ياغي
-×-×-×-×-×-
.. ستة وسبعون صفحة من الحجم الصغير، يشدُّنا فيها عبق التوثيق لتاريخ أعمدة زوق مكايل التي تعشَّقها الكاتب بصمت المراقب ، الهادىء، قبل أن يصبح الموثِّق الفاعل والمتفاعل بين التخيُّل والواقع، ويتنقل بالنص بخفة العارف .كمن يدخل مغارة يعرف دهاليزها.
يَعبرُ نديم نجل مرغريت الكاتدرائية متأملاً السقف والأرض، التي حفظت والدته مرغريت اسرارها، ملبياً طلبَ استاذه ” المجنون” الفرنسي إعدادَ فيلم عن والدته يمزج سيرتها بسيرة وطنه .
جدُها قيصر أحد خمسة عرفوا سرّ عامية ١٩٠٢ وكتموه حتى مماتهم.
قاومت مرغريت الحقد بالصمت والنسيان.تجاوزت الصراعات بروح التسامح.كانت مدركة بأنّ الدم قد يُسفح إذا ما باحت.
إستراحت بنومها ، عشية زيارة مقررة لطبيب القلب
” نامت…وماتت “.
بهذه العبارة، ببساطة حضورها وعمقه، رحلت مرغريت التي اودعت السرّ لصديقها “الفيلسوف” الاستاذ المتفرس بالوجوه لبيب رياشي.جمعتهما مودة ظاهرة.كانت تأنس لمعشره ، يشربان قهوتهما معاً، هو إبن الخنشارة الذي كتب عن النبي محمد وأتهم بالإلحاد ، كما أورد في حواره معها.
ابلغته إنّ الشيخ يوسف كرر زيارته وإلحاحه عن مخبأ بلاطات وشواهد قبور المشايخ التي رماها الأهالي ذات ليل عام ١٩٠٢.
قبل إستراحتها الابدية ، تلك الليلة جزمت بأنها”ستبلغ الشيخ يوسف أنها لا تعرف مكان طمر بلاطات قبور المشايخ.فماذا يريد من إعادة الزمن الى الوراء؟.”
“تقول في سرّها لو يعرف المؤمنون وهم يصلون أنهم يقفون فوق عظام موتى سبقوهم.يدّنسون حرمة الموت.”
خشيتْ أن يطالب المشايخ بملكياتهم المستردة إستناداً الى شواهد قبور المشايخ.
افرغت جعبة مخاوفها لنديم ، واطلعته على سرّها الثاني عن هدم الجامع. صورة عن لبنان المتلبس بالخفايا والخطايا.
في الذاكرة الخفية، كنيسة وجامع، نزاعات لا تهدأ، إعتقالات للشباب وقتل وتفتيش.دم مهدور تَشتمُ مرغريت رائحتَه من أسئلة الشيخ يوسف ونبشِه لذاكرتها المنسية.
ضاقت بزيارات الشيخ يوسف وأعقاب سجائرة ورائحتها في دارها . أتعبها الصمت ، شعرت بالإنهاك الذي ظهر على وجهها . قالت لصديقها الأستاذ : لو يدري الذين يسيرون على أرض الكاتدرائية ماذا تخفي السراديب تحت اقدامهم؟
قحّ الأستاذ، حركَ ربطة عنقه، حدثها عن كاتدرائية فلورنس الإيطالية وعراقتها.
ببساطتها، كما اراد الكاتب أن يقدمها لنا، تدرك أن الماضي المخيف، المُلوث بالدماء قد يصبح حاضراً إذا ما أفاضت بالكلام…”لن ترش الملح على جرح عامية١٩٠٢.”
رفضَ الأهالي إحتكارَ المشايخ للكنيسة ودفن موتاهم فيها.تمردوا على دفن إبنة الشيخ نوفل من القليعات المسلولة…
الحادثة تشكل عصب الرواية.الحواشي ركيزتها التوثيقية لحقبة مضى عليها قرن من الزمن وما زالت ترسم طريقاً للغد.
أسرار مارغريت تتوالد مع حكاية الشاعر الذي أطلق النار من سلاح صيد على متلصص وأرداه.فاجأه في خلوة بين البساتين مع عشيقته .نفرت من الشاعر بعد الحادثة، في رمزية تكمل شخصيتها اللاعنفية.
تكتمل المشهدية بحركة مرغريت ويومياتها ، بأدق تفاصيلها ، من “سرموجة” الحرير ، الى اتقان الطبخ والهرب بروائحه من الذاكرة المثقلة بالشجن.
مرة أخرى يكشف طوني سلامة إنحيازه المستتر للعامية في وجه طبقة العائلات والإقطاع دون أن يغفل دورهم في النهضة الإقتصادية.
على لسان الجد قيصر ،
يسرد كيف تملك الإقطاعيون الأراضي في المناطق المجاورة.
لم يسمِ العائلات بأسمائها، لكن الإشارات ليست خافية.
أوغل الراوي في التوثيق بجمل قصيرة ، سرد جذاب، تعملقت فيه صورة مرغريت الرحبة الصدر ، حرة الرأي، صلبة الإرادة.
صورتُها جاءت بسيطة بعمق الحكماء.
من نوادر كثيرة تضمنتها الرواية التي تستحضر تاريخية روايات جرجي زيدان وسليم البستاني وغيرهما، كشف قيصر لحفيدته ساخراً ،تفاصيل لقاء وفد الأهالي مع البطريرك في بكركي. سألها: لو علم البطريرك أنّ وفداً قبل اللقاء زار المفتي طالباً أن” يؤسلم ” هل كان إستقبلنا. عندما سألنا المفتي : ما ادراني إذا ما تراجعتم لاحقاً عن إسلامكم رد أعضاءالوفد: وحياة مارضوميط لن نتراجع.
فقال المفتي: السلام عليكم .بالتوفيق.وغادر القاعة.
الحادثة كانت حتى امس القريب ، تتردد في صالونات السياسيين من طوائف وملل متنوعة وتستجلب الضحك والسخرية المُرّة.
في لبنان لا تروى الأحداث بلغة واحدة، ولا يكتب التاريخ بالكلمات، وهكذا قطع لبيب رياشي على مرغريت سردها لأقوال الجد سائلاً: هذا ما يقوله النصارى ، ماذا يقول الآخرون؟…
مرغريت الحكاءة الصامتة، أقرب لإسطورة المرأة التي تنازع جحافل المحاربين ، بأهازيج الحب ونثر الورد للعائدين من دروب الموت الى اي جبهة إنتموا.
توقظ فينا مرغريت جموح الرغبة بتحاوز كابوس اندثار ما تبقى من خوف فينا . بإعادة بناء حياة حقيقية ، فوق البنيان الذي نشأ على بلاطات المقابر الخفية والظاهرة.
القصة صدرت عن دار سكريبت. تكاد تكون جزءاً من سلسلة مشابهة لكاتب لا يخجل من المجاهرة بالانحياز لإنتمائه المناطقي . ربما لكونه ينزع لمواجهة الثأر بالنسيان والتجاوز ، بتخليد سيرة مرغريت الخارجة من الاسطورة الى قلب “الزوق” وأحيائه المجبولة بنول الحرير، ومعلقات الورد على ادراجه.
“هي الزائغة في ماضيها، بفساتينها المخصورة والمضمورة التي تنفتح الى الركبة إتساعاً وأناقة تهدل الى حذاء الكعب الرفيع”.. بهذا الإفتتان نودع مرغريت المتحاملة على جراح زمن يتمدد جيلاً بعد جيل.