اخترنا مقتطفات من مقالة “ليلة رأس النبع” للكاتب د. قصيّ الحسين في مقالته اليومية ل ” ميزان الزمان ” الأدبي في بيروت … هنا بعض ما ورد في النص :
الأحزان لا تأتي فرادى. تأتي دفعة واحدة. لهذا تقدم ليلة رأس النبع، يوم سبقها، حتى لا تشذ عن القاعدة.
ظهيرة ذلك اليوم الذي سبق ليلة رأس النبع، كنت إلى رصيف مقهى-Hamra Express. في الزاروب المتفرع من شارع الحمرا، بعد مبنىStarbucks، مباشرة، وقبالة مبنى ألدورادو.
إعتدت ملاقاة شلة بعض الأصدقاء هناك، في الثانية عشرة، من ظهيرة كل يوم. تطول الجلسة عادة حتى الثالثة عصرا. ونفترق واحدا بعد الآخر، بلا موعد محدد. وبلا إستئذان. وبلا رسميات. وبلا ترسيم.
كانت تلك الظهيرة حاشدة على غير عادتها. إستضافت بعض الزوار لأول مرة. وكان أحدنا يجلس “مزروكا” بالآخر. يجلس حلس الآخر. كما تصطف الحملان. يتحمل واحدنا الزركة، حتى لا تفوته جلسة الظهيرة الأثيرة.
ما حصل معي ذلك اليوم، هو من تداعيات الزركة. كنت أتحدث بصورة عفوية، عن أن ذكر النخيل، قد ورد في الشعر العربي. وكان إلى شمالي أحد الرواد من الشلة. تضايق من إطالتي. تماما كما تضايق من سرعة بديهتي. مد يده لقربه مني، وهز كتفي. يريد أن يقاطعني. فإنفجرت في وجهه. آلمني إنفجاري كثيرا. لأنه أتى كردة فعل على ما شعرته إهانة لي( … )
وكان بالإمكان أن اكون حليما، كنت مثل المأخوذ، بعد تلك الحادثة، أمام الأصدقاء والزوار الغرباء. وأمام نفسي. لأن إستطاع أن يحرجني، فيخرجني عن طوري.
مضت الليلة التي سبقت ليلة رأس النبع، تقضني قضا. بل أقول تقضقضني تقضقضا. أمضيت ليلتي، وأنا أفكر فيما إنجررت إليه، من ردة فعل، خالفت بها عادتي وهدوئي. أتأمل موقفي مليا. وأتأمل موقف زملائي مني. ( … )
نهضت صباح تلك الليلة المقضقضة، مذعورا. تهندمت وخرجت ، من “بيت الحمرا” في السابعة صباحا. لعلي أفوز بشيء من الترويحة. بشيء من الترويح عن النفس. قصدت مكتبة برزخ. على مفرق مستشفى الجامعة. صعدت إليها في الدور الأول بالمصعد. لأنني وجدت نفسي أمامه. ووجدته امامي. دخلت بهو المقهى. كان مقهى برزخ مغلقا. وكانت بوابة البهو الخشبية المطلة على الدرج، مغلقة أيضا.. عدت إلى الخلف، أطلب المصعد. كان المصعد مغلقا. كل شيء أرتج علي. الأبواب الثلاثة كلها مرتجة بإحكام. لا مجال للمحاولة. مكثت إلى طاولة وكرسي، أفكر في طريقة الخروج من المأزق/ الإعتقال الإرادي، الذي أسرني، وأسرت نفسي به (… )
جربت قرع باب المصعد، لعل أحدهم يسمع فيفتح لي. فما نفعت محاولاتي المتكررة.لأن البناية للمكاتب. والناطور غائب. ولا أحد يؤمها في مثل هذا الوقت الباكر.
كان لا بد من “الإتصال بصديق”، كما تعلمت من البرنامج المسلي للإعلامي جورج قرداحي. إخترت أحد الأصدقاء لقربه ويسره مني. ولسهولة وصوله إلي بعد دقائق. فأتى صديقي وأنقذني. فخرجت إلى الحرية بعد ساعة من الأسر والحجز والإعتقال، كزرزور علق جناحاه بشباك مصيدة. أو كسمكة نهرية، علقت في “طافوحة” من الطوافيح التي ينصبها الصيادون، لإصطياد الأسماك النهرية.
(.., )
إتصال من البيت، وصلني من الهانم، يعلمني أن إبنتي إصطحبت بنت خالتها إلينا، من طرابلس. لأنها مسافرة إلى فرنسا. أسرعت لشراء بعض الحاجات من المخازن لغداء الظهيرة في الثالثة. دخلت البيت عند الثالثة، لنجتمع على الغداء. وشمسي جامدة عند التاسعة صباحا. ما أردت أن أتحدث بما حدث لي من ظهيرة اليوم السابق، في مقهى الزاروب، حتى صبيحة اليوم التالي في مقهى برزخ. وأنني مسكون بإعصارين: يقضانني قضا. نسخ مقهى برزخ ، مقهى الزاروب. وصرت أعيش مثل سائر الفقهاء في مجتمع المدينة ومكة، بعد عصر النزول، بين “الناسخ والمنسوخ”. كانت الأمور عندي شديدة اللبس، شديدة الإلتباس.
تناولنا الغداء مع المسافرة و أهلها. كنت أخفف عنها ثقل أول سفر، لطلب العلم بفرنسا، بعد أن أغلقت أبواب العلم في الجامعة اللبنانية في وجهها، بسبب فقدان مادة المازوت.
بعد الغداء، تركت البيت لراحة العائلة، وذهبت إلى الحمرا. طلبت مقهىDunki، لسهولة الوصول إلى الأنترنيت. بعد تقنين الكهرباء في البيت. مكثت هناك أنتظر وصول والد المسافرة، من طرابلس. وزوجته وبنتاه، ضيوف أختها، عندنا في البيت.
(… )
إتصلت بالضيف،رجل الاسرة المضافة، لينضم إلى العشاء. قال إنه في الطريق، يحتاج لنصف ساعة. لكنه بدل رأيه في الطريق، لزيارة تاجر الجملة في الطريق. وهو من أهل التجارة، فتأخر علينا.
(… )
بعد العشاء، خرجنا: الضيف وأنا، إلى الحمرا. دعوته إلى مقهى الزاروب، نمضي قسطا من الليل. قلت نسهر قبل أن يذهب بعائلته إلى المطار في الثالثة فجرا.
كان الوقت في الزاروب عالقا عندي في التاسعة صباحا. كانت ساعتي “تمط أرجلها تستحيل إلى عصور”. كما قال الشاعر خليل حاوي.
(… )
دقائق قليلة. نهضت فودعته، ودعوت لإبنته بالتوفيق، وأفسحت لعائلته، في البيت. وخرجت لبيات ليلتي في بيتي الآخر برأس النبع.
كانت دورة الماء عزيزة في بيت الحمرا، مثلها مثل الكهرباء. رأيت أن أحمل معي الغالونات العشر، أعبئها، من جامع عثمان، بعد تقاطع بشارة الخوري. كنت حريصا على هدوئي. وكنت إلى ذلك تعاودني، أحداث “الناسخ والمنسوخ”. حملت جرار الماء إلى السيارة بلا تأخر يذكر. وأدرت محركها وإلتمست محولا عكس السير، لقربه، ولسهولته. كنت أطمئن لتوقيت الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. فلا تصادفني سيارة في الطريق.
“جرت الرياح بما لا تشتهي السفن”. كما يقول الشاعر الحكمي. فاجأتني أضواء السيارات والمتوسيكلات المسرعة على منعطف الزقاق المطل على أوتستراد بشارة الخوري. أعمتني حقا. نسخت الأضواء العظيمة الفاصل الإسمنتي أمامي. كما جرى للفنان جورج الراسي، كما علمت في الصباح، وهو قادم من دمشق إلى بيروت.علقت سيارتي على الفاص الإسمنتي. لا أستطيع التجاوز. ولا أستطيع التراجع. وأنقلبت الدنيا كلها على هامتي، و في عيني. نزلت من السيارة لأتفحصها. كنت أتصبب عرقا، من هول مارأيت.
توقفت ثلاث موتوسيكلات بقربي. ترجل منها أصحابها. نادوا علي بالتأني. تفحصوا السيارة. حملوها حملا ثقيلا. نزلت السيارة بأمان إلى سكتها. سمعتهم يقولون لي: الحمد لله على السلامة. جاءت سليمة. فما إنقلبت بك. فسلمت وسلمت السيارة..
أدرت محرك سيارة صبا، بعد أن شكرت غرمائي، الذين أعموا عيوني بمصابيح موتوسكلاتهم. وما هي إلا دقائق، حتى ركنتها بهدوء وسلامة وإطمئنان، تحت البيت برأس النبع. وصعدت إلى السابع. تسلقت درج البيت على ضوء الهاتف في يدي. دخلت غانما. أضأت جميع مصابيح البيت، على كهرباء المولد. فتحت جميع نوافذ البيت. غرفة سوسن وعبير و محمود ومصطفى. إنتقلت إلى غرفة الطعام. فتحت نوافذها. إنتقلت إلى غرفة صبا. فتحت نوافذها. أضأت الصالة. فتحت نوافذها. دخلت الحمام. أضأته. فتحت نافذته. أضأت الكوردور. أضأت مدخل البيت. أدرت مروحة محمود. خلعت ثياب الخارج. إرتديت ثياب البيت إستعدادا للنوم. فعلت كل ذلك وأكثر، حتى أطمئن على نفسي من نفسي. وأنني لم أخسر أي شيء.
( … )
بعد أقل من ربع ساعة، نهضت فجأة وذهبت إلى غرفة سوسن وعبير ومحمود ومصطفى. أتفقد الخزانة. أتفقد الأسرة أتفقد المنضدات. أتفقد المرآة. عل أحدهم يختبئ علي، فألاقيه. فأخرجه من مخبأه عني. ويسليني مما أصاب من كبدي. غير أني أتذكرهم، أنهم سافروا واحدا بعد واحد . صاروا جميعا خارج البلاد. صرت أنظر إلى الجدران إلى المكتبة. إلى غرفة الجلوس. إلى طاولة الطعام.
فتحت خزانة الأحذية صرت أشم نعالهم الباقية منذ زمان.
(… )
العاصفة ما هدأت في فؤادي. و لا في جوانحي. ولا في جوارحي. كان لا بد من أن يثور البركان الذي في داخلي، فأنفجر بالبكاء.
ليس أمامي من أشتمه. ليس أمامي من ألعنه. ليس أمامي من أضربه بيدي. أخلع يدي على وجهه. أبصم بالبصاق بين عينه. حتى يهدأ ثوران بركاني. كان لا بد من البكاء.
(… )
ثلاث ساعات من البكاء الشديد العصف. والشديد القصف. والشديد الطوف، كانت كافية حتى أكون غريق البيت في ساعات الفجر الأولى. (… ). وخرجت بعد طلوع الشمس، أتفقد السيارة، على ضوئها. فإطمأننت أنها لم تضر بشيء. فأسرعت بها إلى الحمرا. ركنتها تحت البيت، وانزلت الغالونات العشر منها. فإذا البيت فارغ من ضيوفه. وإذا الأهل نيام. فخرجت كعادتي إلى الحمرا، أقرأ الصحف. وأدون وأقمش، تحت ثقل ليلة رأس النبع.
ليلة رأس النبع، طافت علي. أغرت بي. أغرقتني بكل دموعي من الناسخ والمنسوخ. عبأتني بكل الغيوم الماطرة. قلت لنفسي الآن قد علمت معنى قول أحد الشعراء، في غلاف ديوانه:
“تمطر عادة في القلب”.