سلسلة ” انعكاس ” / حلقة 9
“نصٌّ عاديٌّ” من وحي رواية “حياة شخصٍ عاديّ” لكارل تشابك
بقلم الكاتبة : د. لارا ملاك
-×-×-×-×-
عبقريّة الوردة العاديّة في مهادنة الجدار حين تُخطف من الحديقة. عبقريّتها في ألّا تقول للبستانيّ كيف يكون بستانيًّا، إلّا بجسدها وانحنائها حين لا بدّ أن تنحني كي تتعلّم. عبقريّتها في معرفتها أنّ الشّوك ليس عدوًّا، وليس ضدًّا، وليس شِعرًا نبتَ في خاصرتها.
عبقريّة الوردة العاديّة في الغرف الّتي لم تطأها، والمناسبات الّتي لم تُقطف من أجلها، في سيرورتها الرّفيعة نحو العطر حين توازي الأمام، وفي انسحابها الورديّ في ذاتها نحو الموسم الآخر القريب البعيد دومًا. عبقريّتها في أنّها دائمًا النّسخة الجديدة من المرآة.
أمّا البستانيّ العاديّ، فهو الّذي يطيل في عمر القهوة، وفي عمر الصّبح، وفي عمر الشّرفة. عاديٌّ حتّى انفلاق اليد عن قاطفها، عاديٌّ كحديقةٍ عارفة.
هو الّذي يدلّل البذور ويدوس التّراب غير آبهٍ، كأنّه يدوس نفسه حين كان. يحرث غيابه بحذاءٍ مهترئٍ لأنّ التّراب غضٌّ، والمطر فصاحة السّماء الأولى. هو الّذي ينتظر قليلًا من الكثير، وفي القليل طَعمُ الكثير وطُعمه. هو عاديٌّ فيقول للعشب متى يكون ضارًّا حين تطلّ الوردة، ومتى يصغر حين لا بدّ من عطرٍ كي يتوب المعنى عن الغياب. هو الّذي يتقن الرّحيل العاديّ، فيمشي بلا ذنوب.
والرّحيل يصير عاديًّا حين يكون حبْلًا يلتفّ على نفسه وعلى الأشياء وعلى العائدين المربَكين. الرّحيل ليس رديف الغياب. فالغياب ثابتٌ، والرّحيل أمل العودة بأن تكون. وماذا يبقى من هذه التّراجيديا سوى البقاء العاديّ الّذي لم نعوّل عليه، لكنّه تغاضى عن مشيئتنا وعوّل علينا.
هو كالدّوار يصيب الأناس العاديّين أمام النّصوص العظيمة المرهَقة، فيلتفّون حولها، وحول جسدهم حتّى يجدوا البوصلة. والبوصلة توازنٌ لا بدّ منه لتكون الطّرقات لا مباليةً بمصيرنا فلا تهزمنا، بل تدعنا نمرّ كأنّنا ضرورةٌ ملحّةٌ لاستمرار التّكوين، لاستمرار الخديعة الكبرى.
دوارٌ \ نعاسٌ يغلب الأشياء حولَكَ فتهوي إلى المنام سريعًا، وتجرّب نفسَكَ مرارًا لتطابق الحقيقة.
وترى في الحياة، أو تراكَ أشياء عاديّةٌ أكثر، كالموت العاديّ حيث لا يكون للسّرير معنًى يُذكر وإن ورثه جميع أهل الأرض، وإن كتبوا فيه كلّ أمنياتهم، لأنّ الرّوح ببساطةٍ لا تورّث ولا تُترك، ولا تزور وتُزار. تبقى لها فقط قدسيّة الاعتراف، أن ترمي آخر أفعالها كي تصفع به المكان لمرّةٍ أخيرة، فتستريح من عبء الزّمان كلّه دفعةً واحدة. والقسّ هنا يواسي المكان فقط، إذ يرأف بأشيائه الّتي كانت حارّةً، وانتهت إلى برودتها.
هو وجودٌ عاديٌّ كنصٍّ لم يحتج إلى قدسيّة الماضي كي يبدأ، ولا إلى توقيعٍ من نارٍ كي يقفل نفسه على الأسماء ممتنًّا. نصٌّ تقادمَ واستوى على حقيقته، والحقيقة في الأصل بديهةٌ حلوةٌ لا تُعاني.
تقول الجرائد أشياء مثقَلةً باللّغات والدّمٍ الّذي يوهَب ويُمزج ويُزهق، لأنّ العالم مضى من انفجاره، ولم يَخبَر الهدوء في عينين ناعستين. فالخائف لا نعاس له، وإن غفا، ينام مغلوبًا بالغفلة، فلا يعلم لماذا وكيف ومن أَنامَه.
أن تكون في هذا الزّحام نصًّا عاديًّا انشقّ عن ملحمةٍ وهو فخورٌ بذلك. أن تكون نصًّا لا تعنيه بطولة أخيل، ولا الحقيقة المتربّصة بقدمه، ولا الغدر الّذي يُجبَل كلّ يومٍ في طعامه. أن تكون من الملحمة لحنًا خجولًا لم تلتفت إليه الأبيات، ولا البطولات، ولا عدد السّطور الآخذ في التّمدّد كأنّه بلا أرضٍ تحويه.
وفي النّهاية، بعد أن يموت الجميع سيُربكهم حنينٌ مستجدٌّ إلى ما أنكروه. وقد تعيش أعمارًا كثيرةً، أو عمرًا واحدًا، وقد لا تعيش البتّة. وفي ذلك النّفيُ قد يكمن المألوف، والمألوف أمٌّ عاديّةٌ لا تموت كي لا تخلّف وراءها يتمًا، ولا تحاول بناء البيوت كي لا تفتح عين الخراب.
أمٌّ عاديّةٌ لا تفاخر بخصوبتها، ولا تلعن ثديها كلّما تألّمت، ولا توشك على الموت حبًّا. أمٌّ عاديّةٌ ممهورةٌ بالأرض، تعلم أنّها زيتونةٌ يشي الأسود بنضجها ويشي الزّيتُ والصّابون بمعانيها. زيتونةٌ عارفة، تقول لنفسها كم هو عاديٌّ أن تنهمر أجسادها الصّغيرة في تشرين، وأن تكون حبّةً للجوع وحبّةً للموت وحبّةً لما بعد المائدة وأبعد منها. أمٌّ عاديّةٌ لا تموت في سبيلكَ، ولا تعيش من أجلكَ بل من أجل ما يسقط من رموشكَ وأنت تغسل وجهَكَ، فتلملمَ ما فاض منكَ وتملأ بكَ زواياكَ الفارغة.
أن تكون نصًّا عاديًّا، والنّصوص العاديّة تلك الّتي ببساطةٍ لا تكذب إذ لا تقول الكثير. والكذب العاديّ ممالحةُ الأسئلة، كأن تطرح سؤالًا وتعلم أنّ الإجابة جفّت بعد أن عجزوا عنها. تكذب فقط كي تصرّ على السّؤال لا كي تجيب. كذبٌ عاديٌّ هو السّؤال الطّفوليّ، والسّرّ الإلهيّ.
وأنتَ تكذب حين تبحث عن إلهٍ عاديّ. والإله العاديّ هو الّذي لا يريد منكَ شيئًا، ولا يُطالبك بشيءٍ لأنّه يعي أنّه لم يقلْ ما يستحقّ كلّ هذه الطّقوس، وكلّ هذه القصائد، وكلّ هذا الانسلاخ من التّراب. الإله العاديّ أرضيٌّ يعرف أنّ لا فضل لسماءٍ على تلٍّ أو على جبل. فالجبال ليست محاولاتنا الهشّة كي نطال الغيم، وليس الغيم سوى ماءٍ عاديٍّ عودتُه احتمالٌ حرٌّ.
الـ”هنا” عاديّةٌ لأنّ الـ”هناكَ” محض بداهةٍ هادئةٍ لا تنافس ولا تقامر، بل تدور وتشتعل وتتنفّس.
الهواء عاديٌّ أيّها الأرضيّ، وكذلك رئتاكَ تكبران وتصغران، وبهما يتمدّد الهواء حتّى تستكين الرّيح.
الصّلاة عاديّةٌ حين تستريح بدلًا من أن تناجي حتّى تضمحلّ. الصّلاة عاديّةٌ حين تفهم اللّغة، وحين تؤمن بالمعنى.
أن تكون نصًّا عاديًّا، أن يكون لك حذاءٌ لا يخترقه الرّمل، ولا يبدّد هشاشته، ولا يهين بياضه. والرّمل العاديّ هو أيضًا أبيض هادئٌ يعلم متى كان حصًى، وكم تفتّتَ حتّى صار عظامًا لا تنتصبُ ولا تخاف الموج، فالموج لا يكسّر الرّمل بل يذوب فيه.
الموج أو الماء العاديّ، هو ما يُسعِف رسّامًا في لوحته، وما يطوّع له اللّونَ والرّيشة، ليشربا قبل الشّمس، ويتحرّرا قبل الإطار.
العاديّ ما يبقى في الذّاكرة لأنّه بسيطٌ لا يُربكها، ولا يطيح بها، ولا يشغلها عمّا سواها. العاديّ ذاكرةُ جامع طوابعَ يلهو مع الرّسائل ولا يكتبُها ولا يفتحها، يتحسّسها فقط من الخارج فيشعر بلبّها، بالبذور الّتي ستنبت حرّةً بلا طابعٍ، ولا حبرٍ كثيفٍ يقول لها طريقها وحاملها.
العاديّ ما لا يرى الإله كي لا يرى الشّيطان، ويكتفي من البيوت بحبل الغسيل الّذي يحمل الأجسادَ خيالاتٍ وظلالًا ترسم الأرض كي تنزل نحوها متى أرادت السّير من جديد.
العاديّ ألّا تقف محايدًا حين تحبّ، هكذا تصير سرًّا يستحقّ أن يتّكئ عليه الكون.
أن تكون نصًّا عاديًّا، هذه عبقريّة الألم غير العاديّ. ما ليس عاديًّا فقط أن تكون حيادًا لا يعنيه من الوردة السّمّ حولها، ولا يخاف على القصيدة من قالبها وشكلها. أن تكون محايدًا، ألّا تفهم القطار مهما صفّرَ، ومهما مرّ أو خلا، أن تراه فقط.
هذا نصٌّ عاديٌّ، قد تكون -أنتَ- له كاتبًا عاديًّا.