شجن الطفولة
أقسى من أن ترى الشباب يرحل. هو أن ترى الطفولة ترحل. الرحيل هنا، هو الهجرة. الإغتراب. السفر وراء الحياة. هجرة العصافير الصغيرة من أعشاشها.
ما أقسى أن ترى الصغار، مثل العصافير، يرحلون، يهاجرون. يسافرون، لأجل طلب الحياة.
ما أقسى أن ترى الأولاد الصغار، يحزمون حقائبهم بأنفسهم. يلمون من البيت أشياءهم. دفاترهم. أقلامهم. وعلبة التلوين. والمبراة والممحاة وقلم الرصاص. والسبورة. والدمى الملونة الصغيرة. يضبونها جميعا في شنطتهم. يريدون أن لا ينسوا شيئا وراءهم، وهم يتطلعون مثل الكبار، إلى المطار. إلى الطائرة التي تنتظرهم. إلى البيت الجديد. إلى المدرسة الجديدة. إلى المعلمة الجديدة. إلى الأتوكار الجديد. إلى محطات الصعود والنزول. إلى الرفاق الغرباء الجدد.
هذا المشهد الوداعي، مختلف عن غيره من مشاهد الفراق والوداع هذا الصباح. الطفولة كلها، بدموعها وبحنانها وبعواطفها وبتعلقها بأشيائها، وبكل تنهداتها، وتنهيداتها، تطلب الهجرة. تطلب السفر. تطلب الحياة.
وصلت بها محنة الوطن، إلى ترك الوطن. إلى ترك سرير الطفولة يغني خيوط الشمس وحده. يغزلها على مناديل الوداع. على الشراشف، على المخدات الصغيرة، على الستائر الممزقة، من كثرة العناد. ينقل إليها رسائل الأيدي، التي تركت معلقة بأقلام الرسومات المضحكة. بأقلام الرسومات الضاحكة على الجدران. على المخدة الصغيرة. مع الألعاب المبعثرة في أرض الغرفة. تحت السرير الصغير. تحت المكتبة الصغيرة. تحت دفتر الأرنب والسلحفاة.
شجن الطفولة، مر طعمه هذا الصباح. مر مذاقه، حين ترى أطفالا صغارا جدا، بعمر زهرة. بعمر وردة. بعمر تويج ونحلة صغيرة تذوق الرحيق بأقدامها، يجمعون أوراقهم، ويقررون مثل الكبار الرحيل.
أمس، قرر طفلان صغيران الرحيل مثل عصفورين أزغبين يخرجان من العش، وراء أم طارت قبل قليل. عزما على التفتيش مثلها، عن مستقبل وراء البحر. منذ الصباح، يتذوقان ملح الدموع المسافرة وراء “ترتينة” صغيرة، هربت من يد ، لم تبلغ العاشرة.وراء دفتر صغير. يحلم بالخربشات الملونة.
هلا رأيتم معي، وطنا بلا ضمير. يغادر أطفاله بحثا عن حياة جديدة، بعدما سدت في وجوههم سبل الحياة. يرفان على حبال الغسيل مثل ثيابهما المبللة، بمطرة في القلب. بمطر الطريق.
لا شيء أقسى من شجن الطفولة، حين تغيب الشمس عنهما في البلاد التي حبت تحتهما، مثل أدحية لعوب . حين تفتقدهم، ألعابهم، أراجيحهم، الحمامات، الدجاجات، والسلحفاة. وفراشاة تعودت أن ترتطم كل صباحتها، بزجاج شرفة تحت أنامل الفجر المبكر، على رنة الجرس المدرسي.
عجوز الدار، جدتهم، ماذا يحل بها. كيف تحمل ماء النهر على كتفيها. كيف تجري السواقي فوق خديها. كيف تقوى عكازها، على حمل “رمة” العمر الذي مضى. تمضي من الصباح حتى المساء، تبحث عن دعسات صغيرة، فوق ممسحة الدار المبللة بالبكاء. وتحنو على منديل سقط من يد الصغير، قبل الخروج من الباب إلى الطريق.
شجن الطفولة قاتل هذا الصباح. ألم عن حضني، آخر ضمة لطفلين صغيرين. أشم رائحتهما. شميم الورد فيها. شميم الجنان. قدمان صغيرتان، مثل قمرين تعانقاني فوق مخدتي. تعودت عناق الأقدام الصغيرة، عند المساء، وعند الصباح. قدمان صغيرتان، تزرعان مساكب الورد حول عنقي، وترحلان. تتركاني وحيد العويل. وحيد البكاء. في أفق لا يغيب.
شجن الطفولة، قاتل هذا الصباح المبكر علي بالأحزان. لم يدعني أنام طوال الليل. كان يؤرق مهجتي: كيف تطير العصافير من يدي. كيف تطير الفراشات عن ثوبي. كيف يفر عن عيني نور الليل، وضحكات الصغار، والولدنات التي كانت تراشقني. والبسمات التي كانت تودعني. تهتف لي: أزف الرحيل!.
غدا، يوم الثلاثاء/2/8/2022، طفلان صغيران، مثل عصفورين صغيرين، يغادران عشهما. يجربان أن يطيرا وحدهما إلى المطار. يلحقان بأمهما…يرميان من الشبابيك، أوراق الذكريات المعطرة بالحنين. أدسها في عبي. أجعل منها وردة القلب. وكلما إشتقت إليهما، أخرجها إلى الشمس، لأرى مقدار ما كبرت بها الشمس في الظل.
لون السماء، بسمة برقت من ثغرين طفلين ورديين، هذا الصباح. يشققانه بأسنان الطفولة الناقصة.. هل تعلمون مقدار شجن الطفولة، من بسمة الطفل. هل تقاس السماء بالضحكة الهاربة. بالدمعة من نجمة، نجمت فوق سرير باكرا. أيقظتني على غد لطفلين، طارا من كبدي. طارا من يدي. تركا البالونة الملونة تطير خلفهما. تلحقهما بخيط في الهواء الرقيق. تنشق عن صبح جديد.