بين القتل و الإحياء رغبة عارمة في الرجوع إلى جوف الأعماق!
قراءة الدكتورة ساندي عبد النور في ديوان” للعصافير أجنحة و لي أهدابكِ ” للشاعر الدكتور محمود عثمان
-×-×-×-×-
يتساءل قارئٌ متعمّقٌ غاص في ديوان الشاعر د. محمود عثمان المعنّون ” للعصافير أجنحة و لي أهدابكِ” إن كانت كلمة “أهداب” الموصولة بضمير المخاطب المؤنث “كِ” تعادل وقعاً و دلالةً كلمة “أجنحة” في هذه الموازاة الجميلة و الشاعرية و التي تبرز التشابه الجليّ بين الشاعر و العصافير من خلال وجه الشبه التحليق الذي يتحقق بفعل سطوة الحبّ. فمن يقرأ الأربع و الخمسين قصيدةً الممتدة على مئة و ثماني صفحات سيتلمّسُ بوضوحٍ استحضار الشاعر للنهدين أو لما يدلّ عليهما. يكفي أن نذكر أن استعمال الشاعر لهذا المصطلح أو كلّ ما أشار إليه قد بلغ ما يُقارب الواحدة و العشرين مرة توزّعت على سبع عشرة قصيدة أي ما يُعادل ثلث الديوان و التي تعتبر مساحةً لا يُستهان بها:
” أنا اشتعلتُ و ما وشوشتُ ساقيةً/ عن لفح نهديك إلا أضرمت نار” (أزرار، ص. ٢٠) و في نفس القصيدة يضيف: “من عصفة الزهر في روحي و في جسدي/ و جور عينيكِ… نهدٌ آمن جار”.
أمّا في قصيدة صيام (ص. ١٨) فنجد الحبيبة مخاطبة للشاعر حين قالتْ له:” و عزّة النهد، لم يلمسه ملتمسٌ/ و كم بخلتُ على العشاق بالبذل”.
و اللائحة تطول لنفهم من خلال هذه الأبيات و غيرها محورية النهد في قصائد الشاعر و تحديداً في ديوانه موضوع دراستنا” للعصافير أجنحة و لي أهدابكِ”.
فنتأكّد أنّه استبدل النهود بالأهداب ربما تخوّفاً من مدلولاتها الإباحية هو الذي يُخاطب من خلال هذه القصائد جمهوراً ينتمي شئنا أم أبينا الى مجتمعٍ شرقيٍ لا زال يقيم اعتبارات لعدم تخطّي المحرّمات و كل ما يندرج في خانة الإباحية. لكننا سنرى فيما بعد عبر هذه الدراسة النقدية أنّ للنهد مدلولات أعمق و أبعد من إدراج هذا العضو في الخلفية الإباحية.
لهذا من يسبر القصائد بعناية لن يقتنع بفكرة أن يكون للأهداب هذه السطوة العُظمى على الشاعر و هذه المقدرة الخيالية كي يحلّق كما تفعل العصافير من خلال أجنحتها. فإذا حوّلنا أوّل جزء من العنوان “للعصافير أجنحة” الى صيغة المفرد فستصبح الجملة للعصفور جناحان تماماً كما للشاعر نهدا تلك المرأة الخارقة التي سنرى فيما بعد قدرتها العجائبية في القتل كما في الإحياء.
إن عدنا لقاموس الرموز “Dictionnaire des symboles” لجان شوفالييه و آلان غيربرانت حيث تمت الإشارة فيه لرمزية النهد و التي ارتبطت تحديداً بالحماية و التدبير و الأمومة و الملاذ الآمن سنفهم بعمق مقاصد الشاعر. و كأنّه يبحث عن المأمن فإذا امتلك نهديّ الحبيبة صار له جناحان تماماً كما للعصفور.
و في المرجع نفسه يُقال أن نهد اليمين يرمز الى الشمس فيما نهد اليسار الى القمر و بهذا نستطيع أن ندرك أنّ الشاعر بامتلاكه النهدين إنّما هو مالك للنور بكافة أشكاله أو بمعنى آخر للحياة فكيف لا يغدو ساعتها كطائر بجناحين يطير في فضاءات الشعر الواسعة فيتجدّد قلبه كالنسر:
“بحبك و المشتهى أسطع/ و كلُّ المنابر لي تركعُ/ (…) يسبّح نهداكِ لي الجمال/ فيسمع من كان لا يسمع” (سطوع، ص. ١٤).
كما نتلمّس صور الحميمية و البذل الكامنة في هذا العضو الملتصق بالأمومة:
” الورد لكْ/ و النهد في زجاجة الصباح لك/ و عازف الكمان تحت سرّة الحرير لكْ” (هيت لك، ص. ٦٨). نتلمّس أيضاً الجانب العجائبي لهذه المرأة الخارقة القادرة المُقتَدِرة:” النحلُ يسرق مسروراً مؤونته/ من نهدكِ الثرِّ أو من ضوعةِ العنق/ ذقتُ الجمال و سحر الكون في نهم/ و مثل حسنك يا سمراء لم أذقْ” (إبرة الحبر، ص. ٤٨).
و رغم أنّ الشاعر يحاول عبر قصائد الديوان أن يصوّر نفسه و كأنّه القمر كما سبقه عمر بن أبي ربيعة في قصيدة “هل يخفى القمر؟ ” و التغنّي بحسناته كما برز في قصيدة ” قمر”:
” ملأتَ السلال ملأتَ التلال/ و حين اختفيت ملأت النظر/ تزور الجميلات في خدرهنّ/ قليلاً أيا عاشقاً لم يُزر” (ص. ٦١) و التي بلغت حدّ النرجسية في قصيدة الناي: ” نهدي أنا لولاكَ نايٌ أجوف/ و الخصر بين يديك غصنٌ يورف/ هذي يدي خذْها العناق يؤلّف” (ص. ٣٨) فنشعر و كأنّه قاهر قلوب النساء كما تُظهّر قصيدة ” و للهوى أسباب”:” قلبي يحدّثني بأنّكَ عاشقٌ/ متلوّنٌ و بطبعه كذّاب/ يلهو بأفئدة النساء و يشتهي/ سبي القلوب و حبّهنّ عذاب” (ص. ٢٣)
لكنّه سرعان ما يكشف عن ضعفه أمام مفاتن الحبيبة و سحر جمالها فيصرّح في القصيدة نفسها: ” يا للجمال المستبدّ بمهجتي/ يهوى عقابي و الجمال عقاب/ (..) و بأيّ حقّ يا فؤاد تلومني/ لأتوب عنها و الأحبّة تابوا” كذلك يفعل في قصيدة” خولة” التي تسطّر تشابهاً بين كيفية الوصول إلى حلب و كيفية الوصول إلى قلب الحبيبة و كأنّ حلب ما هي إلّا قلب المعشوقة و: ” الدرب يطول إلى حلبٍ/ ما بين غبار و قذائف/ في الصدر بنادق تسألني/ من أنتَ/ أجئتَ على عجل؟ ” (ص. ٢٦).
و هذه المعشوقة الصعبة المنال لا يمكن بلوغها على عجل و إنّما بكثيرٍ من الشجاعة في خوض المشقّات: “الخيل و خولة تعرفني/ و الرمح المنكسر النازف/ يا وجه نبيٍّ مبتسمٍ/ ما بين سيوف و مصاحف/ يا حبّاً فجّر قافيتي/ بحزامٍ من عطرٍ ناسف” (ص. ٢٨)
فنستحضر من خلال هذه الأبيات أبيات المتنبي مالئ الدنيا و شاغل الناس حين سطّر شجاعته فكتب: ” الخيل و الليل و البيداء تعرفني/ و السيف و الرمح و القرطاس و القلم/ صحبتُ في الفلوات الوحش منفردا ً/ حتى تعجّب فيّ الغور و الأكم”.
نضيف أن بلوغ المعشوقة صاحبة النهدين يتطلّب أيضاً الصبر ربما لهذا خصّص للحمار قصيدةً في الديوان حيث مدح بهذا الحيوان و اعتبره مثالاً للصبر فقال:” قهرنا الصعاب و كم ضاق من صبرنا المستحيل” (ص. ٣٢).
انطلاقاً من كلّ هذه المعطيات نشعر أنّ المرأة في قصائد الشاعر محمود عثمان التي يشخص إليها تستدّرج بالقتل فيقبل و كأنّه يعرف مسبقاً أنّه بالقتل يتم الإحياء كما يأتي الفرح بعد الحزن و القيامة بعد الموت. فتتحوّل المرأة عبر سطوتها إلى سّروة:
” يا سروةً خضراء في أفيائها/ جلس الإله و كان يوم السبت/ مرّت عليكِ فصولنا و رياحنا/ و بقيتِ سرّاً للنضارة أنتِ!” (السّروة، ص. ٤٢).
و كأنّنا أمام تماهٍ بين المرأة الأم و الأرض الأم. و كأنّ الشاعر يبحث دون أن يدري عبر محورية النهد في قصائده إلى أبعد من نهد المرأة. قد تكون تحديداً رغبة جامحة منه في العودة إلى جوف الأرض فكما تدفن حبّة القمح تحت الثرى كي تنبت فوقه سنبلة .
كذلك الشاعر يتوق للموت كي يرجع إلى الحياة كما يشتهي:
” يا عاشق الأرض هذه الأرض تشبهني/ و الشوك في الورد مثل الورد يعرفني” (عاشق الأرض، ص. ٩٩)
فلا يجب أن ننسى بأنّه جزء من هذا الكوكب الذي يعاني و الذي يتخبّط في توترات عديدة و أزمات و حروب:
” و كنّا سادة التاريخ/ ماذا نافع…كنّا/ غراب المجد يا للمجد كم غنّى فما أغنى/ و كم وعدٍ و بلفور/ به يا أمتي جئنا” (وعد بلفور، ص. ٩٤)
لعلّه بالرجوع إلى هذه الفانية يعود إلى الحياة كما يتمنى فيصبح الوجود لوحة عذبة و دافئة و قد يغدو هو اللوحة:
لطالما كان النهدان بقصائد د محمود عثمان ذات دلالات مختلفة ؛ وكأنهما جناحاه للتحليق كما العصافير!! فلماذا لم يعنون ديوانه:
للعصافير أجنحة ولي نهداك؟؟
ويبقى المعنى بقلب الشاعر وما نحن الا غاوون.