الجفاف المبكر
قسوة الأشهر المتبقية من الصيف، ليست إعتيادية هذا العام. فدخان الحرائق المشتعلة في الأفق البعيد، يملأ الأجواء. ليست هناك حواجز تحجزه. فالفضاء عميق وواسع ومتصل. وهو غير قادر على منع السحب من التوجه إلى المنخفضات. خصوصا، إذا ما كانت هذة المنخفضات سالكة أمام الرياح القوية.
الشيء المفاجئ هذا العام، هو طعم هذا الجفاف. إنه نوع من الجفاف المبكر، الذي يضرب وجه الطبيعة ويلفحها، ويقسو عليها.
في مثل هذة الأشهر من الصيف، تعود الناس السهر حتى آخر الليل. إعتادوا الخروج إلى الجبال. إعتادوا النزول إلى البحر. إعتادوا أن يجوبوا البلاد . وأن يطووا أطرافها. كانوا ينظمون الرحلات في الداخل. وكانوا ينظمون الرحلات إلى الخارج. فجأة وضعهم الجفاف المبكر أمام سحابة عظيمة من الدخان الأسود. كلما مضى يوم من هذة الأشهر المتبقية من الصيف، كلما شعروا بالإختناق.
ترى إلى العيدان شديدة اليبوسة. ترى إلى الينابيع، شديدة العطش. وكذا التراب يتشقق. وكذلك الصخر، يكاد ينفلق. وأما البهائم فهي تهيم على وجهها، جف منها الضرع، ويبس منها الحلق، من شدة العطش.
الجفاف المبكر، يضرب وجه المدينة بقسوة. أغلقت البنوك شبابيكها، فلم تعد تبسم للزبائن. صار الزائر يشتم عن بعد، رائحة حريق يلتهم الخزائن. ويلتهم معها المدخرات. ويلتهم معها تعب السنين الماضية. أما المحال والأسواق والمتاجر، فأنت ترى الدخان الأسود ينبعث من الرفوف ومن الخزائن. كأن هناك حريق ضخم قد إلتهمها. لم تعد تجد رائحة للأرغفة، تشدك إليها من بعيد. لم تعد تجد الأطفال يجوبون فيها، يحملون الأكياس الملونة. لم تعد تشاهد مجتمعا أمامها. دخان أسود يخرج من داخلها، يحدث عن أيام قاسية، سوف تعصف بالبلاد، تسبق قدوم العاصفة.
دخان أسود يغطي شوارع المدينة. فلم تعد ترى المركبات المزينة. ولا العربات المطهمة. ولا أقدام الناس على الأرصفة المؤاخية لفرح المارة. بل سحب سوداء من الغيوم الحزينة، التي وصلت باكرا هذا العالم، وإحتلت أماكن الفرح واللهو. وأراجيح الأطفال، وأحرقت ألعابهم، قبل أن يستيقظوا من نومهم، هذا الصباح.
الجفاف المبكر، يلفح الأفق القريب والبعيد. ينشر حزنه على الأبواب. على الشبابيك. ينسج الخوف والريح في مقل الناس. يجعلهم يتوجسون من الشرور القادمة.
كل شيء محطم اليوم. بلغت الحطمة، الخبز والماء والهواء والنور. قبر بسعة مدينة. بسعة بلقع من الأرض، تخرج منه رائحة الجثث التي تسبق موتها بشهور. تحتفظ بإراداتها، ولكنها لا تقوى على النهوض. فقد ضربها الجفاف المبكر، حتى أهال عليها تراب القبور.
ثلاثة أشهر عجفاء، وصلت باكرا هذا العام. كل شيء يبس في مكانه، بإنتظار رحيل فزاعة الطيور.