مقصلة
بقلم الكاتب : حسين ابراهيم
-×-×-×-×-
ماذا يبقى من الله حين يغدو الدين مقصلة؟
ها أنا أركض.. أحوّم كحمامة نجت أخيرا من طوفان العبودية. أحمل بين يدي مديتي، فغصن الزيتون قد يبس منذ قرون.
اليوم نلتُ حريتي وسجني معا! ففي مجتمع ممسوخ كهذا، من يفوز بالحرية يُكافأ بالسجن! ومن يقمع الحرية يفوز بها!
ما هو ذنبي؟
لعل ذنبي الكبير الذي لا يُغتفر أنني ولدتُ أنثى، في مجتمع حنطته البداوة…
اليوم سيضاف اتهام جديد إلى قائمتي الطويلة. فبعد أن أمسيت ملحدة وعاهرة وفاسدة في عيون من حولي، ها أنا أصبح مجرمة أيضا.
لقد قتلت أبي…
وفي الحقيقة، أشعر بشيء من الندم. كان عليّ أن أطيل من عذابه، قبل أن أسمح لروحه الرجيمة أن تغادر نحو الجحيم.
كان علي أن أجعل من احتضاره السريع، أعواما بطيئة، تساوي برعبها، تلك الأعوام التي جعلني أعيشها جثة تشتهي الحياة.
ما هو ذنبي؟
الحرية… وما أعظمه من ذنب.
أذكر أن أحد زملائي في الجامعة كان يؤمن بأن الأرض مسطحة، ويصر على موقفه الغبي هذا. لم يكن يؤمن بكل الأدلة والشواهد الصريحة التي جاء بها العلم.
ودائما ما كنت أتساءل: إن كان هناك من لا يزال يشكك في كروية الأرض، هل سأعتب على من يراني عورة؟!
إلا أن زميلي الساذج لم يؤذِ أحدا باعتقاده البدائي ذاك. أما أبي فلم يفوّت فرصة لإيذائي…
كنت أكره الحجاب الذي فرضه علي قبل أن أبلغ التاسعة حتى. كان يمنعني من اللعب مع أولاد الجيران، أو التنزه مع رفيقاتي… وكلما احتججت صفعني، وقال ناهرا: “وحدة فلتانة”.
هل القمع هو القانون الطبيعي للأنثى؟ وهل عليها أن تتعايش معه كما لو أنه سنّة الحياة وطبيعتها؟
كنت أشتري الكتب دون علمه.. أقرأ دون علمه.. أكتب دون علمه.. أقصد الجامعة دون علمه.. وإلا شدّد الخناق علي.
ولكن إلى متى؟
في ساعة نادرة الوقوع، فعلتها..
في ساعة.. لو يستغلها كل فرد منا، لاستحال العالم مدينة فاضلة…
في ساعة.. كنت أدري أنها ستأتي لا محالة. وها قد أتت..
خلعت الحجاب، وخرجت…
ربما تكون الأرض مسطحة كما يعتقد زميلي، ربما تكون مربعة، أو مسدسة… لكن مما لا شك فيه أنني أمكث فيها، وأنني أعي هذا المكوث جيّدا. وبقدر ما أعي مكوثي، أعي أن الحجاب تشريع بشري تعسّفي محض.
حاولت في الماضي أن أقنع نفسي بشرعيته الإلهية، وتجاهلت المنطق لسنين. ولكن ألم يحن الوقت؟
ألم يحن الوقت لأن نضع مفاهيم جديدة؟ أن نعي بأنّ المفاهيم القديمة لن تصبح تشريعا إلهيا لمجرد أن أسلافنا تقبلوها وتوارثوها جيلا بعد جيل؟
ألم يحن الوقت لأن نفهم بأن تشريعا كهذا هو تشريع ظالم، ولا يمكن أن يصدر عن إله عادل كإلهنا؟ وأنّ العلاقة بين الأنثى والرجل أعمق من أن تكون علاقة غرائزية، تفرضها الشهوات والرغبات الجنسية؟
ألم يحن الوقت لأن نفهم بأن الرجل إنسان وليس بهيمة، وأن المرأة إنسان أيضا وليست عورة؟
ألم يحن الوقت فعلا لأن نفهم بأن الرأس وعاء العقل والحضارة، وأنّ الحجاب مقصلة؟
عدت إلى البيت، بعد أن قضيت ساعات أخوض فيها غمار الشمس، وأستنشق الحرية ملء أنفاسي. كان أبي قد اتخذ الوقت الكافي ليتحول إلى حيوان مفترس ينتظر قدوم فريسته الضالة.
في الماضي كان يهددني قائلا: لو نزعتِ الحجاب لأحرقنّ شعرك. وقرر أن يفي بوعده..
ما إن دخلت البيت حتى التقطني من شعري كأي كبش خليع، واستعد لأن يضرم النار فيه. لكنني دفعته عني بكل ما أملك من قوة.
لعله لم يتوقع المقاومة من ابنته المطيعة، أو لعله لم يقدّر القوة التي يمكن للأنثى أن تختزنها. إن جسدي المشدود على أي حال أقوى بأضعاف من جسده السمين المترهل كأكياس القمامة.
وقف قبالتي مشدوها كما لو أنه يرى شخصا آخر غير ابنته، شخصا جعله يعيد حساباته ونظرته البدائية إلى الأنثى.
أشهر ولّاعته في وجهي متوعدا، وحاول الانقضاض علي من جديد. لم أستطع أن أقاوم وزنه الثقيل، فتهاويت أرضا. قرّب ولاعته من شعري، فركلته في كرشه المتهدل فوقي كمظلة من الشحوم، فأخذ يئن ألما…
لم أعثر حولي على أي سلاح أواجهه به، لذا أمسكت بالحجاب الذي رميته خلفي قبل أن أخرج، وأوثقت به عنقه، ثم جذبته من طرفيه بأقصى قوتي، إلى أن أرديته مخنوقا.
هكذا قتلت أبي… بالسلاح نفسه الذي قمعني به سنينا. بالمقصلة نفسها التي فرضها المجتمع علي وعلى سائر النساء، ظلما وعدوانا.
لن أتردد بتسليم نفسي، فالجبناء وحدهم من يهربون. لكنني أريد أولا أن أحوّم كحمامة، دون قيود.. دون أسوار.. دون طوفان..
لا أخاف السجن المصنوع من القضبان، بل أخاف ذاك المصنوع من الأعراف والموروثات والقيم الواهية. ولهذا قررت التخلص منه..
ويبقى السؤال كما كان.. كما تعودت أن يكون، كما لم يتعود غيري أن يكون:
ماذا يبقى من الله حين يغدو الدين مقصلة؟
وكيف تصمد الحضارة حين تحتفظ البشرية ببداوتها؟