قراءة التَّداعي السّياقيّ عند خليل حاوي
( مداخلة د. راغدة قربان في ندوة كلية الأداب / جامعة الجنان التي أقيمت تحت عنوان ” خليل حاوي : قراءات بين الأمس واليوم )
-×-×-×-×-×-×-×-
التَّداعي السّياقيّ هو ما تَشحَذُ به الدَّلالاتُ الحافَّةُ اللغةَ الشّعريَّةَ من طاقاتٍ تستدعي استدعاءَ الإشاراتِ والوَحدات اللّسانيَّةِ وَفْقَ محورِ التَّأليفِ والمُجاورة. يُشَكّلُ التَّداعي السّياقيّ بُعدًا مُختلفًا لاِشتغال التَّسانُدِ التَّأويليّ داخلِ المُدوَّنة الشّعريَّة. والسّياق أنواع: السّياق اللُّغَويّ. السّياق التَّعبيريّ.
أوَّلًا: السّياق اللُّغَويّ، ويضمُّ: السّياق الصَّوتيّ، والسّياق الصَّرفيّ، والسّياق النَّحْويّ، والسّياق الدَّلاليّ.
-السّياق الصَّوتيّ: يُؤدّي وظيفةً أساسيَّةً في المنطوق، ويتحرَّكُ من خلالِ الثنائيَّاتِ في سياق يستقطبُ الحسَّ والإدراك، حيثُ تتقاطعُ الرؤيةَ بينَ الزَّمان واللازمان. حتَّى إنَّ خليل حاوي يستطيعُ أنْ يُعاينَ الخطَّ الوهميَّ بينَ الوهمِ والعَيان عبر المستوى الإيقاعيّ على الشَّكل التالي:
” عَاينْتُ / خَطًّا / يمَّحي / بينَ / الزَّمانِ/ ولا / زمانْ
عَايَنْتُ / خَطًّا / يمَّحي / بينَ / التَّوهُّم ِ/ و / العَيانْ “.
نلاحظُ ثنائيَّةُ التحوُّلِ من صيغة الماضي إلى المضارع: “عاينْتُ” / “يمَّحي”. ومن العجيب أنَّ الشَّاعر لا يُعمِّقُ نشاطَه اللغويَّ في إطار الثنائيَّةِ الضِّديَّة، بل يجعلُه قائمًا على صراعٍ مع الدَّهر في خطَّين زمانيَّين وَهْميَّين. وتتجسَّد الثنائيَّة في: “الزمان” # “لا زمان” // و”التوهُّم # “العَيان”. نلاحظ أنَّ الإيقاعَ ناتجٌ من تعاونِ التكريرِ المعجميّ والمركَّباتِ الفعليَّة، كما في “الشّيفرة البصَريَّة”، “عاينتُ”، المُتضافرةِ معَ تكريرِ البنيةِ النَّحْويَّةِ التي تَمثَّلَتْ في ضميرِ الرَّفعِ المتحرِّك “التاء” إذ، يتوزَّعُ هذان السَّطران بشكل مُتوازٍ، كُليًّا على المستوى التّركيبيّ والدِّلاليّ.
إذًا، تقومُ آليَّةُ تأويلِ السّياقِ الصَّوتيّ على تحويلِ لغةِ القصيدةِ إلى لغةٍ ثانية، نستعينُ بها لإظهارِ أسلوبيَّةِ القراءة، ولتشكيلِ الرُّؤى، اعتمادًا على الطاقةِ التخيليَّةِ في الذِّهن، وذلكَ بإبرازِ قالَبٍ بصريّ، إذ يَتُمُّ التمييزُ بين الأفعالِ والأسماءِ والظروف، انسجامًا مع السِّياق. وتستند فاعليَّةُ هذا التأويلِ البنيويّ إلى التحوُّلِ الزمنيّ من الماضي في فعل “عاينتُ” إلى المضارع في فعل “يمَّحي”، المتبوعِ بظرف المكان “بين”، الذي ينشأ عن قولِه الدَّلالةِ الوسَطيَّة؛ حيثُ يتشكَّلُ الفضاءُ الشِّعريُّ لسيميائيَّةِ الدَّال، واللعبةِ اللغويَّةِ للمعنى.
-السّياق الصَّرفيّ: يدرسُ تحديدَ الأفعال لزمن وقوعها: ماضٍ/ مضارع/ أمر. مِثال قصيدة “الجسر”: “وكفاني”/ يعبرون/ إخرسي”. إنَّ السّياقَ الصَّرفيَّ في الفعلِ الماضي “كفاني” /أنا/[متكلِّم مفرد مذكَّر] يدلُّ على الاِمتلاء الرُّوحيّ، لكنَّ الامتلاءَ ما زال يفعل فِعلَه في الزمنِ المستمرّ. والفعلُ المضارع “يعبرون” /هُم/ [ضمير غائب منفصل للجمع] يحملُ في طيَّاتِه رؤيةَ العبور في اللحظةِ الآنيَّة، حتَّى كأنَّ خليل حاوي ٱحتضنَ العبورَ منذُ ٱنطلاقتِه حتَّى بُلُوغِ مُستقرِّه. أمَّا صيغةُ الأمر “إخرسي” /أنتِ/[ضمير مخاطب مفرد مؤنَّث] فإنَّها تدلُّ على الرَّفضِ النّهائيّ لِسَماعِ ذلكَ الصَّوتِ المشؤومِ الذي يُشوّشُ في نفسِه صوتَ الرَّجاء. إنَّ هذه اللُّغَة الشِّعريَّة تنحو منحًى خاصًّا؛ لأنَّه يُضمِّنُها المعاني النَّفسيَّة والدَّلالات الفنّيَّة.
-السّياق النَّحْويّ: يبحثُ في معاني التَّراكيب النَّحْويَّة، وعلاقاتِ الكلماتِ ووظائفِها ومواقعِها في التَّرتيب؛ لأنَّ التَّغييرَ في البُنيةِ النَّحويَّة يدلُّ على المعنى. وهذا السّياقُ النَّحْويُّ يُؤكِّدُ حضورَ حاوي النَّابعِ من أعماقِ الجرح، وذلك عَبرَ موقفٍ قائم ٍعلى تجاوزِ الرَّفضِ وإعادةِ الخَلْق، إذ إنَّه تجاوزَ اللُّغَة القُدُسيَّة؛ لأنَّه كانَ يُعاني موتَ وعي لا يَموتُ، وولادةَ وعي ٍلا يُولَد، حيث يقول في قصيدة” السِّندباد”:
“عِشْتِ في حنوَةِ بيتٍ، ما وَقاكِ أنَّه بيتٌ على الصَّخرِ تعمَّرْ
إنَّ خَلْفَ الباب ِ في صَمْتِ الزَّوايا يُحْفَرُ الموجُ وتُدوِّي الهَمْهَمَهْ
إنَّ في وَجهِكِ آثارًا مِنَ الموجِ ومَا محَّى وحَفَّرْ”.
إنَّ السياق النَّحويّ يحمل إشارات واسعة، وهي: “صمت الزوايا”، يُحفَر الموج”، “نعجن الوهم”. وهناك إشارات ضيِّقة الانتشار، وهي: “بيت”، “الوجه”.
لما كان الفعل الماضي “عشْتِ” يدلُّ على زمن مُنصرم، فهذا يعني أنَّه يتشاكلُ مع سمة “حنوة”، وهي بالتالي سمةٌ غيبيَّةٌ وحاضرةٌ في آن، على أنَّها رمزُ الانكسارِ والتَّواضع. يتقدَّمُ حاوي نحو مِساحةٍ روحيَّةٍ مُشبَعةٍ بأبعاد نفسيَّة. وينتجُ عن ذلك محوران: الأوَّلُ يتجسَّدُ بالارتباطِ النَّحْويّ، وهو مؤشِّرٌ للالتحامِ الجوانبيّ لذاك “البيت”، تفاعلًا روحيًّا مع الحدث في “صمت الزَّوايا”. أمَّا المحورُ الثاني فيقومُ ببناءِ الصورةِ الشِّعريَّةِ المتحركةِ والمتداعيةِ في الذاكرة.
وقد تكونُ علاقةُ الذاكرةِ الحاويَّة بالمكانِ هي علاقةٌ مُحدَّدةٌ، تُحيطُ بالإدراكِ والوعي، حتَّى تمتدَّ حدودُ الذاكرةِ، لتشمَلَ كلَّ ما يتعلَّقُ بالبيتِ من انفعالاتٍ ومخاوفَ وحنينٍ وأفكارٍ. بهذه الحالةِ، تنفتحُ الرؤيةُ على زمنٍ غائبٍ، يتمثَّل في غياب الفعل، وهو “صَمْت الزوايا”، “خلف الباب”. وقد تخفُّ حِدَّةُ التقابلِ الحركيّ، من خلال العلاقةِ المتعاكسةِ مع الفعلِ الماضي المنفي “ما وقاكِ”، ليُعبِّرَ عن حركةٍ هادئةٍ تُسايرُ الروحَ ، إذ إنَّه لم يَجِدْ مَفرًّا من بناءِ بيتِه على “الصخرة”، على أنَّها رمزُ الصمود.
نلاحظُ الحركيَّةَ المزدوجةَ على المستوى البنيويّ، وذلك من خلالِ الوظيفةِ النحْويَّةِ للأفعال، كما في: “يُحْــفَــرُ الموج” ⇆ “تُدوِّي الهمهمة”. وفي مقابل هذه البنية، نجدُ نمطًا آخرَ يأتي امتدادًا للأوَّلِ على نحو من الأنحاء، كما في: “الموج” ⇆ ما “محَّى”/ “الموج” ⇆ ما “حفَّر”. وتبدو هذه العبارةُ مُقفِرةً دلاليًّا بسبب غياب البؤرةِ الدِّلاليَّة الشَّاملة، التي تغذّي القصيدة من حيث الرؤيا المتجاوِزة، التي تحمل في طيَّاتِها نزعةً إلى الغياب، تنعكسُ دلاليًّا على القصيدة بين اللاتناهي واللاتحدُّد.
-السّياق الدَّلاليّ: قصيدة السندباد:
” وَجْهانِ لم ترَ الغربة َ في وجهي ولي رَسْمٌ بعينَيها
طَريٌّ ما تغيَّرْ، آمِنٌ في مَطرحٍ لا يعتريهْ
ما ﭐعترى وجهي الذي جارَتْ عليهِ دَمغة ُالعُمرِ السَّفيهْ”.
إنَّ الزمنَ الدَّلاليَّ لخليل حاوي يمَّحي بينَ الماضي والحاضرِ فالمستقبِلِ، حتَّى إنَّ “الرَّسمَ بعينَيها”، ينسِجُ منها وُجُوهًا دلاليَّة شتَّى. يبدو أنَّ ٱمتدادَ الدَّلالة زمانيَّا، قد يحملُ في طيَّاتِه الزمنَ المطلَق، وهذا يدلُّ على أنَّ حركةَ حاوي الدَّلاليَّة، لا حدود لها، وهي تَسيرُ في خُطواتٍ تتَّسعُ باتساعِ الزمنِ ذاتِه. لذا، يعاني حاوي زمنًا دائريًّا مُقفَلًا، ولكن سرعان ما يتلاشى وجودُ الزمن، ليحلَّ محلَّه اتحادُ “الأنا”، بالموضوعِ الفلسفيّ، وذلك في كِيانٍ واحد. وما يمكنُنا استنتاجُه هو أنَّ الشَّاعرَ لم يختَرِ “المقهى” على سبيل المثال فحسبُ، بل أرادَ من خلال استخدامِه، أنْ يُعبِّرَ عن وجهِه المغترب الناشط في استرجاع المشاهد و”الثواني”؛ لأنَّه يطمحُ في الوصول إليها من جديد. أمَّا الانعزالُ فيتمُّ التعبيرُ عنه عَبْرَ الانفعاليَّةِ لذاكَ الوجه، الذي أصابتْه الغربةُ في الصميم، وتمثَّلَتْ في “ما ﭐعترى وجهي“.
ثانيًا: السّياق التَّعبيريّ، ويضمُّ: السّياق المُبتكَر، والسّياق الأسلوبيّ.
-السّياق المُبتكَر: يتعامل بالعاطفة أكثرَ من المنطق. إنَّه ظاهرةُ التَّجديد اللُّغَويّ، إذ إنَّ هذه الظَّاهرةَ ترتبطُ بثقافةِ خليل حاوي الواسعة. مِثال قصيدة “الكهف”:
“عاينْتُ رُعبَ زوارقٍ تهوي مُكسَّرَةَ الصَّدى
عَبَثًا يُدوّي عَبْرَ أقبيتي الصَّدى
يُلقي على عينيَّ ليلَ جدائلٍ
في الرّيحِ تُعَوِّلُ، تستغيثُ، وترمي
غُبَّ انسحابِ البَحرِ”.
نلاحظُ هذا السّياقَ المتوازن: “عاينْتُ رُعْبَ زوارق” / تَهوي مُكسَّرَةَ الصَّدى” / يُدوّي عَبْرَ أقبيتي”. هذا السياقُ يدلُّ على نظام تصويريّ “عاينْتُ”/ الذي يتكيَّفُ معَ نظامٍ حركيّ “رُعب زوارق”. إنَّ الاختلافَ بين “رُعب الزوارق”، و “دويّ الصّدى” من خلال “الرّيح” هو دليلٌ على تشابُهٍ مُستمَدٍّ منِ الإنتاجِ الاِستعاريّ. وهناك سياقٌ سَمْعيّ يتشاكلُ بين “الصَّدى يُدوّي”، والفعل “تستغيث”.
-السّياق الأسلوبيّ: هو السياق الذي يُعبّر به خليل حاوي عن أحوالِه النَّفسيَّةِ المتغيّرة، ويتَّخذُها طريقًا للأداء، وربطِ الدَّوالّ بمدلولاتِها، حيث يقولُ في قصيدة: “بلا عنوان”:
“ليلةٌ تمضي، وماذا بَعدَها قُلْ لي: جَبانٌ أنتَ، قُل: آخِرُ ليلَهْ
لا تُهدْهِدْ وَجَعي، كفَّاكَ مِنْ صَخْرٍ وفي عَينَيكَ أعيادٌ ذليلَهْ
آهِ لا ! الحُبُّ يمحو البُعْدَ: ضَمَّاتٌ على البُعْدِ، رسالاتٌ طويلَهْ
وهدايا مِنْ كنوزِ الشَّرقِ عُنواني؟ تُرى أينَ يكونْ؟
رُبَّما عُدْتُ لباريسَ، لِأُحيي ذكرياتِ الجوعِ فيها والجنونْ:
شَارعٌ، لَيلٌ، مَصابيحٌ، سُكونٌ، وسَكارى يَعبرونْ”.
ينسج حاوي هذه المقطوعة بزمن انتشاريّ اتِّساعيّ، تجسِّدُه لفظة “ليلة”، وهي رمزُ المخدَع الظلاميّ، حيث تنعدمُ فيه الرؤيةُ على أنَّه دالٌّ “فارغ”، و”مُتحرِّك”. إنَّ بدايةَ الأسطُرِ تقومُ على التنكير بطبيعةِ الموقف، الذي تتمزَّقُ فيه “الأنا” في تلكَ الليلة، فتأتي كفاعلةٍ للمُضيّ، على أنَّها شيءٌ مجهول. يتحوَّلُ الشَّاعر إلى رصدِ مشاعر المرأة من خلال هذا الاستفهامِ الإنكاريّ المتجانس مع الإطار النفسيّ لوضعيَّة المرأة، والإطارِ الشكليّ للرجُل.
إنَّ المرأةَ في هذه اللوحة الشعريَّة، هي رمزٌ لروح أزليَّة، لا لجسدٍ فانٍ. وهي أيضًا رمزٌ لذاتٍ مغتربةٍ تتعذَّب. انطلاقًا من هذه الصِّفة الملازمة للمرأة، يتمُّ التشاكل على المستوى النحويّ القائم على الأفعال المضارعة، وهي: “تمضي، تهدهد، يمحو، تُرى، لأُحيي، يعبرون”. هذه الأفعال تدلُّ على حركيَّة الاغتراب واحتواءِ “الأنا” بكلّ أبعادِها الحميميَّة الطامحة.
ثالثًا: السّياق غير اللُّغَويّ، ويضمُّ: السّياق الثقافيّ، والسّياق العاطفيّ.
-السّياق الثقافيّ: يشمَلُ المحيطَ الاِجتماعيَّ الذي يُمكنُ أنْ تُستخدَمَ فيه الكلمةُ، إذ يقول في قصيدة: “البحَّار والدَّرويش”:
“بَعْدَ أنْ عانى دُوَارَ البحرِ
والضَّوءَ المُداجي عَبْرَ عَتْماتِ الطَّريقْ
ومَدى المجهولِ ينشقُّ عَنِ المجهولِ
عَنْ مَوتٍ مَحيقْ
يَنشرُ الأكفانَ زُرقًا للغريْق
وتَمَطَّتْ في فراغِ الأُفْقِ أشداقُ كُهوفٍ
لفَّها وَهْجُ الحريقْ”.
يَبحثُ المُوجِّهُ اللُّغَويُّ في هذا السياق عن الحركةِ التي تتجلَّى في السِّمات: “راوغَه الرّيح”، (بمعنى الرُّوح)؛/ و”رماه”، و”وهْج”. وتمثِّلُ الاستنباطاتُ أقصى حالاتِ البرهنةِ المعقَّدةِ للمضمون، إذ يتحدَّث حاوي عن أبعادٍ ثقافيَّةٍ في اتِّباعِ الأدلةِ التالية: “البحر”، “الطريق”. وتستقطبُ الأضدادُ “الضوءَ”، و”العتمات”، حيث يتردَّدُ حاوي من خلالها، في تحديدِ الموقف الذي ينبغي عليه اتِّخاذُه؛ لأنَّ الذَّاتَ الحاويَّة تتموقعُ بين العتمة والضَّوء. لذلك، إنَّ “البحرَ” يرمز إلى “التناغم الكونيّ بين الأرض والسَّماء، ويوحي بالانتقالِ من حالة إلى أُخرى مُرورًا بالمجهول”. إذًا، إنَّ “البحَّار” هو حاوي نفسُه، الذي يخلعُ أقنعتَه على “الدَّرويش” و”يوليس” و”فاوسْت”.
-السّياق العاطفيّ: يحدِّدُ درجاتِ القوَّةِ والضُّعفِ في الاِنفعالات، إذ يقول في قصيدة “الجروح السُّود”:
“مَرارَةٌ وَعَارْ، تِفلٌ بِلا طَعْم ٍبقايا الحُبِّ،
تِفْلُ الحقْدِ في القرارْ
وكيفَ أصبَحْنا عَدوَّيْنِ وجِسْمٌ واحدٌ يَضُمُّنا، نِفاقْ
كلٌّ يُعاني سِجنَهُ، جَحيمَهْ في غَمرةِ العِناقْ
خلَّيتُها تروحْ، جنازةٌ خرساءُ لا تنوحْ
حُمَّى جُروحْ، وَدَمٌ يَسْوَدُّ في الجروحْ”.
ليس بوُسْعِنا في هذا السِّياق العاطفيّ إلَّا أنْ نستعرضَ المنظورَ السيميائيّ والبنيويّ. إنَّ المعنى السِّيميائيّ الذي يتكشَّفُ عنه دالُّ “المرارة”، يتحقَّقُ بمستواه الجسديّ في فضاء “العار” الذي يلازمُه. سرعانَ ما يتبادرُ إلى الذِّهنِ أنَّ “المَرارةَ” تعملُ بشكلٍ فاعلٍ في استدلالاتٍ لاحقة، وإلا تبقى “المرارة” التي أحسَّها حاوي مُضمَرة. ويكون السّياق الحسيّ دالًّا يرشدُنا إلى حدثٍ طبيعيّ قائم. وثمَّةَ وجودُ تبايُنٍ سياقيّ متباعدٍ بين سمة “مرارة / وعار”، وبين سمة “تِفْل الحقد”، فالأولى ﭐنتشاريَّة، والثانية ﭐنحصاريَّة.
نستشفُّ من خلال ما تقدَّم أنَّ التَّداعي السياقيّ عند حاوي لا مثيل له، لِما فيه مِنْ قدرة على الإبداعِ الرُّوحيّ، والعُمقِ في العقيدة، والخَلْقِ السَّامي، والرَّغبةِ الذاتيَّة في نَشرِ رسالتِه الإنسانيَّة.
بقلم: د. راغدة قربان
10- 6- 2022