عشبة الترجمة
لا تفصل الترجمة، الشعر عن زمنه. يظل زمنه لصيقا به، مهما طال به الدهر. تشعرك عشبة الترجمة، منذ الوهلة الأولى، أنها تحافظ على المعنى، منذ لحظة ولادتها شعرا، في لغتها الأصلية، أو في لغتها المنقولة. فعشبة الترجمة، هي عشبة الخلود، لأية لغة إنحازت. ولأية لغة إنتمت. ولهذا نرى الشعراء الكبار، هم في الوقت نفسه، عشابين مهرة. إستطاعوا الوصول إلى عشبة الخلود قبل غيرهم . وجعلوها في شعرهم، فصارت تتناسل في جميع لغات الشعر، كما لو أنها بنت بجدتها. بنت لغتها، بنت الشعر الموحد في جميع نفوس الشعراء. أو هي بالعكس، التي تلهم الترجمة عشبة الخلود. فتصير حكما على قانون وحدة الشعر، لأي لغة إنتمى.
لا تشذ عن هذا المسار، مجموعة: “إدغاردو زوين. شعراء من الأرجنتين. ترجمة صباح زوين. دار نلسن. بيروت ط1. 2011. 210ص. تقريبا”. فهي تمهد لديوان من الشعر المقارن، سداه ولحمته، “عشبة الترجمة”. وأنا أزعم، أن هذة العشبة التي نالت صفة الخلود، على مر أزمنة الشعر، هي التي منحت صفة الخلود للشعر المترجم، من أية لغة أتى. لأن الشعر الزائل يند عنها، ولا تقبله ولا يقبلها، شعرا مترجما خالدا على مر السنين، مثل الإلياذة والأوذيسة، ومثل سائر الكتب التي وضعها، كبار المترجمين. ويأتي “هوميروس”، في طليعة هؤلاء، على وجه اليقين، لا على وجه التخمين.
تضم مجموعة إدغادو زوين نحوا من ثلاثين شاعرا إرجنتينيا. وقد مثل على شعر كل شاعر منهم، بقصيدة واحدة. وربما بقصيدتين، أو ثلاث قصائد. جاءت بترجمة الشاعرة والمترجمة، صباح زوين. وقد مثلت هذة القصائد، على جميع أنواع الشعر الإرجنتيني المعاصر والحديث.فنال من عشبة الخلود، ما جعل هذة المجموعة متألقة، بين يدي القراء اللبنانيين والعرب. يعود إليها طلاب الدراسات العليا، كلما أعوزتهم الحاجة، للتمثيل على جودة الشعر الإرجنتيني المعاصر وتلقائيته المحسد عليها.
( وذهبت حيدا ولم يكن النور/ مشيت عبر ممرات قاسية/ عبر دهاليز، وانا في حزني/ وأخذت ورقة زعفران/ أرفقتها بتحية حمراء اللون/ وصلت هنا لأراك.)
قدم لهذة المجموعة الشعرية الراقية في ذلك الوقت، سعادة سفير الإرجنتين في لبنان، السيد خوسيه غوتييريث ماكسويل،( أود أن أعبر إذا عن إمتناني للتعاون الذي لا يثمن، والذي قدمه إدغاردو زوين، وهو يمثل نموذجا إضافيا للإنسان اللبناني ولكرمه. هذا الإنسان الذي يجري دمه في عروق الكثيرين من الأرجنتيين. وأتمنى لهذا التعارف والتبادل الأدبيين أن يتطورا بإستمرار في حقول ثقافية أخرى.”
أما إدغاردو زوين،فقد ذكر “في لقاء الشعر” بمناسبة إحتفالية بيروت عاصمة عالمية للكتاب، في العام2010. وقارن بين الشعراء اللبنانيين والشعراء الإرجنتيين ( اعتقد أنهم جميعا يعبرون بعمق كبير عن التجاذبات الثقافية التي يعيشونها، من خلال الرؤية الخاصة بكل جيل، من هذة الأجيال المتداخلة عمريا وإستاتيكيا داخل الحركة الشعرية الراهنة في البلاد)… ( التنوع الفني والإيديولوجي والجغرافي، يمكن كل أولئك القراء الذين ينتمون إلى آفاق مختلفة وبيئة مغايرة، من أن يقتربوا لدى قراءتهم هذا الكتاب، من “الثيمة” التي يتناولها الشعراء الأرجنتيون المعاصرون… يساهم هذا الجهد في تكثيف التبادل الثقافي، وفي تمتينه بين البلدين.)
وأما صباح زوين، فهي تقول بإن صلتها بالأرجنتين تذهب إلى أبعد من زمن علاقتها بمشروع ترجمة الشعراء الأرجنتينيين إلى العربية… وكل ترجمة، تفترض الإزدواجية. وهي تنطبق على كل من قدم جهدا في هذا الكتاب، تماما مثلما تنطبق عليها.
( هذا المزيج الذي يحمل إذا في طياته، إلى حد ما، تداخلا ثقافيا وتاريخيا معا، المزيج الثقافي والإثني الذي يحمله كل شعراء هذا الكتاب، …هو الذي أحفزني على إنجاز هذا العمل بحماس كبير.)
هذة المجموعة المنقولة عن الشعر الإرجنتيني، تمثل بحق، رؤية هؤلاء الشعراء لحياتهم الأدبية والفكرية والإجتماعية. وهي تجسد بالتالي، إرادتهم في الحياة والحب والوطن. وتقدم نموذجا حيا، على العاطفة الإرجنتينية، وعلى العقلانية الإرجنتينية. كما على جميع الهواجس التي تشغل بال الشعراء في الأرجنتين، في ظل الأزمات التي كانت تعصف ببلادهم. هذة الأزمات التي تشابه إلى حد بعيد، ما يعانيه الشعراء اللبنانيون من أزمات منذ عقود، وحتى اليوم.
( فيإحدى الصور العائلية/ وفي رسمة ممزقة/ الألوان/ البطن ممزق/ الألعاب./ لم العودة إلى الإتحاد.)
الشعراء الأرجنتيون، ظهروا في هذة المجموعة التي قدمها، إدغاردو زوين، وترجمتها صباح زوين، في صلب المشهد الثقافي الأرجنتيني. والعالم الناطق بالأسبانية. ربما لم يكن لهؤلاء الشعراء، أعمال ضخمة، غير أن هذة العينات الشعرية التي ترجمت لهم، تشي بإبداعاتهم. كما تؤكد مساراتهم، عبر سمات أسلوبية وموضوعاتية، غرفت من الباروكية: الرفد من الأسطورة اليونانية، ومن إستلهام الفنون البصرية من نحت وعمارة وتشكيل واللجوء البلاغي إلى شلال من الصور. ومزج عوالم الحيوان والنبات والمخلوقات الغريبة، بالصفات البشرية. وللإشارة كان معظم هؤلاء الشعراء المترجم لهم، من ضمن هذا التيار الأدبي والفني العريض.
(نور الفجر الغبش يأوي محطة القطار/ إنك على رصيف منعزل/ بمعطفك الرمادي/ وحقيبةةفي كل يد.)
وقد رفدت هذة النصوص الشعرية، الشحنة الإحتجاجية المتمردة في الأرجنتين. وخوضت في مد ثوري وطني وإقليمي وإنساني وعالمي. مما كان له الأثر العظيم على المسار الإبداعي، وطنيا وعالميا.
هذة المجموعة الشعرية من الشعر الإرجنتيني المترجم، إنما يمثل عرفانا مزدوجا، بمنجزهم، وبمنجز الترجمة العربية، التي تعود حكما إلى “عشبة الخلود”. عشبة الترجمة الشعرية، التي تجلت في الترجمات التي قدمتها الشاعرة والمترجمة، الأستاذة صباح زوين. وهي بنظري، قادرة على هز المشاعر، وحبس الأنفاس، وتوقف القارئ عن الكلام، لشدة وقعها في نفسه.
(كلعبة المكعبات اللانهائية/ دمية روسية ستحتفظ في جوفها/ قطعة زهرة فرخت في صدع ما/ أفتحخندقا في الصمت/ وهي الكلمة التي لا أقول/ قرميدة الغضب على وجه الخوف/ وفي يوم الإثنين يقطع بلسانه سقف حلقه.)
فالواقع الأرجنتيني كما تقدمه هذة المجموعة، يشي بمعنى ملغز. وهو في الوقت نفسه شيء آخر لا نعرفه: حميمية و بعد. محايثة وتعال. أمام تجسد مكتنف بالأسرار.
ما يميز هذة النصوص الشعرية المترجمة، إنما هو هاجس الدقة في التعبير والدقة في التصوير والبحث المحموم عن الحقيقة. ويتجلى فيها حذر الشعراء وتشكيكهم أمام الصورة الشعرية، التي تخفي الواقع وتشتت العين. بحيث تعلن عن جمالية القياس الدقيق وعن فنية القول غير المعلن. ناهيك عن التوازن والدقة، والضوء الذي يستلهمه شعراء هذة المجموعة في معظم قصائدهم.
(لكن لو ذهبت أشتري/ سكينا كسكاكين الريف. أثير الضجة/ بكعوب أحذيتي وبالنقود المعدنية.)
ونحن نرى، إن هذا النوع من الشعر، إنما يراوح بين البساطة والغموض، والإنتقال السلس، من المقاطع الوصفية الغنائية، إلى التأملات الشعرية.
وتتسم أشعار هذة المجموعة، التي تصدر عن أدب متين في الأرجنتين، بالتواضع والتحكم بالمشاعر، في مواجهة الأشياء المرئية والمعاشة. وتتبدى فيها أيضا، الرغبة بتبديد طوعي للذات. ذات المشاعر المهمشة والمتوارية، والتي تبقى على مسافة واحدة من الأشياء في القصيدة، تمنح الصمت والفراغ أشكالا أخاذة.
والواقع إن جزءا كبيرا من أزمة الشعر المعاصر، عربيا على الاقل، إنما يأتي من الصورة الشعرية المستعصية، المقفلة، ذات التركيب البصري العشوائي، وذات المجانية في الصياغة اللغوية. وهي نفسها نراها ماثلة في هذة المجموعة من الشعر الأرجنتيني المترجم. مما يدل على وحدة المعنى ووحدة الصورة، في الشعر المقارن، والتي تحفظه وتصونه عشبة الترجمة الخالدة.