نقلا عن صخيفة ” النهار ” اللبنانية :
الكاتب محمود شريح يقرأ نعيم تلحوق في ” أرض الزئبق “:
محمود شريح
نعيم تلحوق في أرض الزئبق (فواصل للنشر، 2022) يطلُّ علينا من جديد برؤى عن “سرديّة المعنى”، فيلحّ على أنّ هناك قِيَم قديمة وأُخرى حديثة للنصّ الأدبي، أي أن الأدبَ واحةٌ أخلاقية، فالإبداع سِمة قيمة لا سِمة فرق، وعليه يصُرّ على أن الرواية رؤيا، وبغيرها لا يستقيم معنى يجسّد مسار الحركة باتجاه تمزيق الحُجب.
يقصُّ رفيقنا نعيم صلةَ حزنٍ بماضٍ سحيق زمنَ اعتُقل والدُه وحين كانت أمّه تضحك في وجهه فيدرك أنّ خوفاً دهمَها، وفجأة صارَ على بيّنة صريحة أنّ ما احتاج إليه هو قلب امرأة تستطيعه ولا يستطيعها. وها هو يتشاور مع ظنّه كي يلدَ معنى لحيرته فيجد الظلّ مختبئاً داخل ظنّه، فالتصقَ بالحياة فيما وجدَ نفسه خارجَ منظومة الإعتقاد، وأصرّ على السير في ركاب بلاغة أبيه، فدار في ظلال شجرة المعنى وحوّم في فضاء لا يخدم الهداءة.
على هذا النحو وجد الأستاذ تلحوق أنّ العالم أوسع من أن يدلّه على مداه، فَيدُ أمّه على لحاف المعنى لم تزل تمنعه من الحلم، واقتفى أثرَهُ حين وقع في معضلة من يكون أمام فداحة الكون الذي يحوطه، فجالَ في فضائه البسيط ووجد إنما البساطة قائمة في أبلغ الكلام وأن العالم فرصة ذهبية ينالُها، فوجدَ أنّ هناك قصوراً ذهنيّاً في مجتمعاتنا، حيث النخبة ضالّة كما القبيلة. كلّ ما يسوقه نعيم تلحوق يندرج تحت خانة “آفة المعنى”، فاكتشفَ بعد حين أن الزمن عبارة عن مجموعة من النَمَش البرتقالي على جسد امرأة تهوى الخلاص من فكرة المسيح، فيا حول الله من سوري قومي اجتماعي عتيق لبس قبّع فرويد ولحق بربعه. ومن “بياض المعنى” حيث الدفء والحنين على الورق إلى “ثبات المعنى” حيث قراءة جليّة لفكر أنطون سعادة، زعيمه وزعيمي، مفجّر النهضة من غزّة إلى البصرة على مدى قرابة قرن، وكما يراه نعيم صاحب مدرسة فكريّة عزّ نظيرها في الشرق على هدي ما قاله كمال جنبلاط عن سعادة، وعين صاحب أرض الزئبق على المعنى أي عصيان اللغة، ومن هنا اعترافه: “خبّئيني بين أسرارك المتعبة، لأنظرَ إلى الوجود بشكل مختلف”، وهو بهذا يوسّع رقعة أحلامه، فتعود به الذاكرة إلى صفاء القريّة، موقناً أن أحلام الذين ينامون على الريش ليست أزهى من أحلام الذين ينامون على بساط، وأن الشّعر عنده تمثّل في زوجته:
على هدوئها تعرّفني بثعلب الحظّ،
لأني خطفتُها بين مئات النساء، من
دفترِ الذكريات؛ هدؤها هذا علّمني
الصبرَ، والإنحياز إلى الإعتدال في
أكثر الأوقات، لكن ليسَ في كلّ
الأمور، فعرفتُ معها أن الهدوء هو
انحياز ضمني لسقوط الأقنعة، تماماً
كما تعلّمتُ أنه لا بُدّ من الصمت
لغة تسمع نفسك قبل أن يسمعك
الآخر
بهذا القالب النثري الوضّاء يصبّ نعيم قوالب فكر وعقيدة، مقتنعاً أن الثقافة قائمة في استدلال المعنى التابع لها. بدأ بسقراط وذهب إلى الفارابي وانتقل إلى نهج البلاغة ولزم المعرّي، كلّ ذلك بحثاً عن اليقين فوجده مفازة لا متناهية. نعيم تلحوق، بُورك قلمه، في أرض الزئبق يعيدُ إلى النثر رونقَه وإلى الحلم اتساعَه وإلى عقيدة سعاده وهجَها الدائم منذ انبثاقها حتى الساعة