أطياف العاشقين
غالبا ما يعيد الشاعر ماضي محبوبه في صورة الحاضر. يستعذب العودة إليه بالذاكرة. ثم لا يلبث أن ينسج له قمصان الحب ومناديله ويلوح له بها. يبللها بالدموع، حتى تصير أنعش لقلبه. ثم يمضي في قراءة الحاضر، من خلال سير الذاتية، والأوراق والدفاتر والأقلام، والأغراض الشخصية، والتجهيز في الفراغ. يملؤه كما يحلو له أن يملأه.
الشاعر “لامع الحر”، يفعل تاريخه القديم في المشروعات الغرامية. فيجعل من قصيدته، سيرة ذاتية للمحبوب. يرسم أوجه التشابه بين الماضي والحاضر. ويجعل المحبوب واسطة العقد. يستعذب شميمه، كلما إشتدت عليه سويعات النسيان والهجران، خصوصا في ديوانه: “أنوثة يداري نسغها الطوفان. دار نلسن. بيروت. ط١. 2018: 155 ص. تقريبا”.
تجربة إنسانية غنية بالمشاعر الحميمية، وبالمواقف التأملية، وبالمراجع الذاتية، من حيث المكان والزمان. وسيل من التاريخ العاطفي. ومن الأحداث الشخصية المتوالية. بل من الأمكنة، التي تشاركه الآلام والتباريح، والأشواق، لدنيا ماضية، لا يزال يعمل الشاعر على إستعادتها بقوة، إلى حاضره اليومي. نستمع إليه يقول في “أوراد- ص٣٤”:
( تراني/ سأحظى بصبح سعيد؟/ تراني سأمضي إليها/ كأني إرتشفت هواها بهاء/ وعيد.)
ليس الأمر بالنسبة للشاعر لامع الحر، إعادة كتابة ديوان الحب، أو رواية سردية منضبطة، أو غير منضبطة، عن حياته الشخصية مع المحبوب، لكنه يطارد روحه في الأماكن التي زارها وعاش فيها، ومناجاة ما تبقى منها، في صورة أرشيف ذهني. أو في صورة أرشيف مادي، مصور ومكتوب من حياته مع المحبوب. مع المعشوق. يقول في “وحيدا أعانق ظلي- ٤٩”:
(ضياع يفجر عمر الوجود/ ويجعل مني قصائد منثورة/ في الفلاة/ أنادي فضائي الذي كان/ أصغي لناي بلا وتر/ لا يضيء الطريق إلى وردة الشعر…/ ضاعت وردي هناك.)
“أنوثة يداري نسغها الطوفان”، عنوان مشروع “لامع الحر”، في قراءة وتوصيف الحياة اللاهثة، وراء برهة البراءة والعذوبة والطيف البري. يرسم “أطياف العاشقين” جميعهم، حين يرسم طيف محبوبه، بصورة يومية. الطيف المتنقل مع الساعة الشمسية. أومع الساعة الرملية. أو مع فصول السنة جميعها، في الأوان العذب. إنه أكثر من ألبوم لصور العشق، ولحظاته الهاربة في الزمن. وما يشكله هذا الألبوم الشعري العاطفي، من سردية عشق يتوالى على قلبه فصولا، من خلال الفوتوغرافية الشعرية، ومن خلال الإستعراض للتاريخ الشخصي، في برهة التوحد والتجسد في نار الشوق وفي نار الحب.
يعرض لامع الحر، في ديوانه: “أنوثة يداري نسغها الطوفان”، موسيقى كونية، قلما إستطاع شاعر، أن يستوعب، مثل هذا النوع من الموسيقى في الدواوين الشعرية. كأنه بذلك، يريد أن يخلد موسيقى الطوف. موسيقى الطوفان الأولاني، الذي جرى في برهة التاريخ، على الأبدية الخالدة. نستمع للشاعر يقول في ” لا أضيء سوى أناي- ١٠١”:
( عمر يضيع على رصيف المسرح العربي/ يدخل في الهزيع/ إلى زمان لا نراه/ يختفي في عتمة الأشياء/ يمحو ما تراكم في الخواطر/ من ضياء/ ويجوب أروقة الفراغ الثر.)
موسيقى رائعة حقا، أعاد مزجها هذة المرة بماء الشعر، بعدما كانت قد مزجت بماء الترب. بماء التبر. فتأخذ الأصوات بالتدفق، جملا وتراكيب وظلال موسيقى دافقة من عمق الحب. إنه نوع من التدفق الموسيقي النقي الصرف، في صوت شعري قهري. يجعلنا نسمعه، بكل عظمته وآلامه وجرأته، لنفهم كيف أحدث الزلزال في القلب.
عروس الطوفان البدئي، إستطاع الشاعر لامع الحر، أن يواكبها، وأن يسرع في نسج جو مفعم بالحب، ويلون اللوحات التي قصدها لها. فيلعب هاهنا، ذكاء الشاعر، دوره. ينجح في مزج الشعرية المتخيلة، بالشعرية الواقعية، فينتج بين يديه الشعر المبدع. فنراه ينجح في عمله، حيث فشل الآخرون. نستمع للشاعر يقول في “شروق- ص١١٣”:
(هل أنت إلهامي… ومعجزتيالأخيرة/ أم سلام العائدين إلى فضاء الأغنيات؟ / وهل يجيء الحب مثل الضوء/ مرتاحا على أوراقه البضاء/ أم سأظل مأخوذا بصوت دافئ/ ينحل في جسدي/ ويخترق الصميم.)
يكاشفنا الشاعر في ديوانه الذي بين يدينا، بدرامية كثيفة، قلما يستيطع شاعر الوصول إليها، بهذة العذوبة، وبهذة الشفافية. ولا غرو، فلامع الحر، أمضى شعره كله، أو قل معظمه، في ظلال الدراما الشعرية، الغنية والطويلة، والتي تجمع تحت سقفها، مجموعة من دواوينه اللامعة. تجمعها، تحت سقف الشعر. وهو إلى ذلك، يطمح للتغيير، من خلال الموازاة بين المشاهد وبين الدراما، حتى لا يصيب القارئ الدوار ، أو الذهان الشعري.
يخوض الشاعر لامع الحر، في معترك الشعر، بفروسية قل نظيرها. يسرج ناقته، ويمضي في الواحات ينشد الماء. إنه ماء الحب، الذي جعل منه كل شيء. فيكتشف نواح كثيرة كان يجهلها. وتنمو عنده أحاسيس، قلما كان يشعر بها. وهذا ما كان يعظم تجربته الشعرية، ويزيده ثقة في الشعر.
فينصرف إليه بأوالية الحب والعشق والذوب والتضحية. يقول في “حصاد- ص١٢٥”:
( يضيء الشعر أحلامي/ ويمضي في السراب…/ مصافحا ناي الوجود،/ وكنهه الأزلي/ مشتاقا إلى تفاحة الموتى/ ومنتصرا لأيام/ تنادي نسغها الباقي.)
في شعر لامع الحر، خصوصا في ديوانه “أنوثة”، تراجيديا الظلم والقهر والإضطهاد. وقد تشف شعريته أيضا، عن جميع أنواع القيود التي فرضت عليه. وعلى كيانه ووجوده. وعلى لغته وإنتمائه. فنرى تفكيره ينصب وكذلك وعيه، وخياله، على فكرة الحرية وتساؤلاتها الجوهرية. فلا يغيب السؤال الوجودي عن باله أبدا: ما معنى وجود الإنسان، إذا ما جرد من إنسانيته ومن حريته.
وربما وجدنا لامع الحر، يكتب أيضا رحلة الهروب المحفوفة بالمخاطر. فنراه يضيع في الغابات الكثيفة،وربما مات، دون أن يجد من يدله على الطريق. وربما عانى الوحشة وقصف البرد والزمهرير والثلوج والامطار، دون رحمة. يقول في “ومض- ١٣٥”:
(نأتي إلى زمن يطوق خطوتي الأولى/ ويعطيني المرارة كي أعاند نشوتي الولهى/ وأبدأ رحلة الإلهام إشراقا/ بنار الحب مكتوبا/ بجمرة نسغه الماضي إلي/ كأنه شغف الطبيعة بالمياه النائمات على جبين الوقت موسيقى/ تحيرني البلاد بضوئها الشفاف/ مسكونا بعاصفة الجمال البكر/ متكئا على أحلامنا النجلاء إرهاقا/ ومجبولا بضوء…)
يكتب لامع الحر، في ديوانه هذا الذي بين يدينا، عن المرأة الأم والأخت والزوجة والبنت والصديقة والرفيقة والزميلة. فيرى في المرأة نسغ العالم. بل ضوء العالم ونوره المشع. المرأة التي تمنحه بسخاء، الامل والجمال والشوق والحنان. بالإضافة إلى الخصوبة والأمومة، بحيث تجب عنه الجدب والعطش والجفاف والتصحر.
شعر لامع الحر فيه من الحركة الإبداعية، ما فيه من التفكير والتوقد، دون قيود، أو دون “تابوهات” تذكر. فهو في شعره، على تماس مباشر، مع جميع الثقافات والحضارات. مع جميع اللغات. كأنه بذلك يريد الوصول إلى محطته الأخيرة من الشعر. حيث يملأ كيانه من أطياف العاشقين، فيغذي تجربته ويغنيها، إبداعا وإنسانية وتسامحا. فقد تعلم من الشعر،وكذا من المرأة البنيان على التسامح مع الآخر، وإحترام خصوصياته، بكل روية وإتقان. نستمع إليه يقول في “ص١٣٩”:
( أراك الآن أعلى من فضاء الآخرين/ أعيد روضك عاطرا/ مثل العصافير التي نامت/ على غصن الجمال البكر/ كي تستكمل الكلمات رقصتها/ وتمضي نحو قافية/ توشح هذة الأرض المليئة بالورود/ الساكبات على الثرى نفحا/ يصدع ما تراكم في خوافيه/ من القحط المخيف/ كأنه العتم الذي صاغ الوجود/ من الرماد.)
لامع الحر، شاعر، لا يشاركه في شاعريته أحد. وأنثاه، أنثى كونية. وطيفه، مجمع فرد لجميع أطياف العاشقين.