“دومينو”
قصة قصيرة للكاتب حسين ابراهيم
***
سأُعدَم بعد دقائق، في هذه الساحة التي تعجّ بالجماهير الساخطة. سيعدمني شعبي، ويبيدني كما تُباد الذبابة.
ما المسألة؟! وما الذي سيجري في الدقائق اللاحقة لإعدامي؟ هل سيتحرر الوطن وينتهي البؤس؟
لطالما كانت المسألة كما اختزلها شكسبير: أن نكون أو لا نكون. ولعله كان قرارنا منذ البداية. أليس هنالك من يعتقد بأننا في عالم ما، يُدعى عالم الذّر، نُسأل قبل أن نولد إن كنّا نرغب في المجيء إلى الدنيا أم لا؟ لعلنا اخترنا القدوم بمحض إرادتنا.. لكننا نسينا، أو تناسينا هذا القرار الأرعن، وحمّلنا الإله المسؤولية كاملة، كما نحمّله اليوم مسؤولية الماضي والحاضر، وربما المستقبل أيضا. ولكن لماذا سيختار أحدهم أن يهبط إلى “الدنيا” وهو يمكث في “العليا”؟
لعله الملل. أجل.. لعنة البشرية. كل البدايات ولدت من رحم الملل. وحتى اليوم.. ما زلنا نتكاثر من فرط الملل. ما زلنا نقتل بعضنا من فرط الملل. ما زلنا نحيا ونموت.. نؤمن ونلحد.. ندمّر ونبدع.. فقط من فرط الملل. ولعلّ النهايات نفسها ستحدث حين نملّ من كل ما فعلناه. حين لا يبقى شيء نفعله. حين ندرك أن قرارنا الأول لم يكن صائبا، وأن “العليا” كانت لتستوعب مللنا أكثر من “الدنيا”، لأنه في الثانية قد يصنع المجازر.
هكذا إذن.. سأُعدَم بعد لحظات. سأُعدم لأنني قررتُ أن أضع حدًّا للملل واللهو معا. هل سيُخلّد اسمي ويتمجّد في عقول الأجيال القادمة؟ ولكن كيف سيتمجد، ومن يوشك على إعدامي هو شعبي نفسه؟
في البداية كانت خياراتي في التمرد واسعة، ففكّرت أن أشعل نفسي، كما فعل محمد بوعزيزي سابقا، علني أبعث بذلك ربيعا عربيا اجتاحه الذبول والقحط، فتحوّل إلى خريف يفترشه غبار العقم والاستسلام. لكنني تذكرتُ بأن هذا الفعل قد تكرر مرارا في السنوات الأخيرة، وما عاد يثير حماس الجماهير. فمن يحترق يوميا من القيظ والقهر والجوع لن يهزّه مشهد عابر لامرء يضرم النار في جسده.
ثم فكرت في تنفيذ عملية انتحارية تطال منزل أحد الزعماء، أو تطال البرلمان أو وزارة من الوزارات، ولكن كانت تنقصني القنابل.
وهكذا أخذتْ تتقلص الخيارات أمامي، إلى أن انحصرت في خيار واحد…
لم يكن خيارا سهلا، إلا أنني قررت أن أخوض غماره. إنّ الثورة تستحق بعض المجازفات. وطالما قررتُ أن (أكون)، فلا بد أن يكون لكياني معنى، غير المعنى المتأتّي من شعوري بالملل. معنى أسمى.. أدقّ.. معنى يعادل الكيان نفسه، أو العدم.
خياري تمثّل في الخيانة. خيانة وطن.. خيانة شعب.. خيانة قضية.. قررتُ أن أخون وطني من فرط ما أحبه. قررتُ أن أخونه في سبيل إصلاحه.
وهكذا، دون سابق إنذار، قتلتُ جنديا.. تواطأت مع الأعداء.. اعتديت على الأملاك العامة.. حاولت سرقة أحد المصارف.. اغتصبتُ فتاة..
أجل.. أردتُ أن أستفز الجماهير المحنّطة. أردتُ أن أجسّد الحجر الأوّل من الدومينو. أردتُ أن أكون سببا مباشرا.
وها أنا الآن أقف على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة، بين اللهو والجد، بين الخيانة والحب، بين الكيان والعدم… سأُردى بين دقيقة وأخرى، ويُردى معي جميع الخونة.
ربما لن يتمجّد اسمي أبدا، وسأظل الخائن المنبوذ في عيون الأجيال القادمة… ولكن هل يوجد في الكون أجمل من الخيانة التي تشعل الثورات؟ إنها خيانة المحِبّ.