غصن الزيتون
ما عرف الشاعر عبدالله شحادة الجفاف من الأدب والشعر، طيلة حياته التي عاشها. أطل على الدنيا في العاشر من حزيران1910. أضاءت يومها بلدته كوسبا صنوبرة الشعر كوزا كوزا. ضوأها غصن الزيتون أيضا، في سهل الكورة المنبسط تحت عينيها. فإستنارت الكورة الخضراء من عل. تضوأ الزيتون بزيت الشعر المخبأ في الوليد الجديد. وحين غادر العام 1985،ترك جراره للناس مختزنة في بلدته كوسبا، حيث شب وشاب، تأخذ منه ما يقيم أودها من الشعر و الأدب والنقد. فترك لطلابه ما يبلون به روحهم من الأشعار والدراسات، وهم ينشأون جيلا بعد جيل، على مقاعد الدراسة، في لبنان الشمالي. بل فيكل مدارس وثانويات لبنان، منذ تأسيس الكيان، حتى اليوم.
الشاعر عبدالله شحادة، يدعنا نتساءل اليوم، لماذا يموت أديب موتا واحدا. ثم يعيش بعده طويلا. ويموت أديب آخر موتين: موت الإنسان وموت الشاعر.
عبدالله شحادة من النوع الأول، الذي خلده شعره وأدبه: ( عبدالله شحادة. شاعر الكورة الخضراء. المجموعة الكاملة. تحقيق وطباعة ونشر: منتدى شاعر الكورة الخضراء . عبدالله شحادة الثقافي. ميراي عبدالله شحادة. ط1. 2020- ستة مجلدات).
إنه إذن نتاج الأديب نفسه. إنه نوعية النتاج، بلا هيمنة إيديولوجية ذات أغراض سياسية أو طبقية. لأن الدور الأول لخلود أدب عبدالله شحادة، إنما يعود لنوع الشعر أو الأدب الذي قدمه لقرائه، بعيدا عن الشبهات. وبعيدا عن الأغراض الرخيصة. وبعيدا عن التلوث الذي يشين أدب الأديب، ويجعله يموت قبل أن يموت صاحبه.
لا يختلط أدب عبدالله شحادة بشبهة مادية. أو سياسية أو طائفية. أو حتى طبقية. وإنما هو ينضح عن عاطفة إنسانية بحتة. يغرف من معينها جميع ألوان الشعر والأدب. ويجعلها من تويجها، تاجا على هذة المجموعات الشعرية والأدبية الخمس التي خلدته وخلدها.
إن جميع أجهزة لبنان الثقافية، التي عرفها هذا الوطن العظيم، قبل الحرب الأهلية( 1975_1977)، من كتاب مدرسي، ومن مدرسة ومن جامعة ومن راديو وتلفاز، كانت تشهد للشاعر عبدالله شحادة، بالموهبة الفذة. وبالأدب الأنيق. وبالشعر الراقي. وبالشاعرية المحلقة. فكان رجل الأدب والشعر بإمتياز. رجل المواقف الإنسانية والوطنية والقومية، بلا زيف ولا تزلف. نستمع إليه يقول من قصيدته “الغار”:
ميلاد لبنان وإستقلال أمته/ على يدي شيخه فجر وإظهار
وليل تشرين والأفكار شاخصة/ إليه، لم يدر أن الدهر دوار
ساقوا إلى القلعة العلياء سيدها/ وصحبه، فدعت للذود أوغار.
ثم يقول:
وفي “بشامون” حاكوا في تمردهم/ لواء أرزتنا الخفاق وإختاروا
من ظلمة السجن فاض النور مؤتلقا/ وعاد يحمله شيخ وأنمار
وكان عيد والإستقلال بهجته/ وللجلاء زغاريد وقيثار.( النشوة الصرعى: 1/31,32).
كان عبدالله الشحادة، من الفرقة الناجية من الأدباء، فكان يعد إلى جانب أمين الريحاني ( فيلسوف الفريكة) ومخائيل نعيمة ( ناسك الشخروب). ومارون عبود (ناقد عين كفاع). وسابا زريق( شاعر الفيحاء). ومع هؤلاء الأكابر، كان عبدالله (شحادة شاعر الكورة الخضراء)، إبن بلدة كسبا المطلة عليها، كحصن، ثقافي تليد.
إن تعزيز الدولة للشاعر عبدالله شحادة، إنما أتى لتعزيز الأدب، وكسر حلقته الضيقة. وكسر قوقعته على الأدباء والشعراء القدماء، في العصورة الأدبية الماضية. تخطى بشعره لبنان إلى البلاد العربية وفلسطين. نستمع إليه يقول في قصيدته “الأمومة”/ (القوافي الضائعة1/89):
يا أم، في القدس، عيد الأم مجزرة/ ضجت على مسمع الدنيا مناياها.
و”دير ياسين” والأشلاء شاهدة/ سلي الأجنة ليلا عن حبالاها.
قد مزقت هيف القامات مرعبة/ برابر بعدما فضت عذاراها.
ومرضع نحروها بعدما ذبحوا/ رضيعها، إبتقروا بالرجل أحشاها.
وكل شيخ قعيد سل خافقه/ وجرعوه من الأفلاذ أنداها.
واليوم قد ألبسوا الشاطي مآثمه/ ونفروا عن حمى حيفا صباياها.
لم تبق رابية إلا وقد صبغت/ بما تفجر من أجراح قتلاها.
كان عبدالله شحادة يمهد لمرحلة تأسيسية، للشعر والأدب في لبنان، بعد الحربين. وبعد تأسيس الكيان. وبعد نيل الإستقلال. وبعد مرحلة العمران الثقافي والتعليمي والجامعي، التي عرفها لبنان. فتميزت به وتميز بها. يقول في قصيدته (صدى المعجزة 2/298):
الفخر بالعلم لا بالمال يا صحبي/ منه المعالي يراها صاحب الأدب.
عرف عبدالله شحادة طريقه إلى الأدب، من خلال البيئة الأدبية التي تبيأها. ومن خلال المدرسة الراقية التي تأدب فيها. ومن خلال الجامعة الرائدة التي تفيأ ظلالها. ولذلك أتى أدبه كله، صنيع هذا الرقي الذي إجتمع إلى بابه، كما لم يجتمع لغيره البتة. نستمع إليه يقول في (القوافي الضائعة1/267):
يا حساسين الربى طاب الشجا/ والتغني في ظلال الأكمات.
بلغوا دنياي أني ههنا نغم من شرفة الأمجاد آت
أنا صوت صارخ في صوتكم/ يقرع الآباد قرع العاصفات.
أنا فيكم خالد منتصر/ كخلود الأرز فوق الربوات.
أنتم في الخلد شدوي والصدى/ أنتم في الأرض زهري ونباتي.
لهذا لم يتسول عبدالله شحادة الخلود، لا من الأبواب السياسية ولا الطائفية ولا الطبقية. ولا من أبواب السفارات، ولا من أبواب المهاجر. بل نمت دوحة شعره على أرض لبنان. تغذت من ترابه، وشربت من عيونه وأنهاره. فإشرأبت آنئذ في عليائه تناطح السحاب. نستمع إليه يقول من (القوافي الضائعة1/65):
تبتاع بالأصفر المغري ضمائرها/ يا للحقيقة في عصر المناكيد.
لا ترتقي أمة هانت صحافتها/ ولا بلاد أضلت نهضة الخود.
يا ثورة الفكر كم زلزلت مملكة/ يسوسها حفداء الخصية السود.
هكذا ظل عبدالله شحادة سحابة عمره الزمني والأدبي، “غصن الزيتون”، في الكورة الخضراء. غصنا ثخينا عريقا مورقا مشرئبا إلى الأعالي لا يطال. يجلي في جميع موضوعات الشعر. يبتكر الجدة. يعلم المدرسين. يؤسس للمدرسة الأدبي الخلقية. إنها مدرسة عبدالله شحادة الشعرية. “يكاد زيتها يضيئ وإن لم تمسسه نار.”