شباك الروح
عادة ما تبدأ عملية الكتابة، عند الكتاب الصاعدين، بهاجس خافت. بل ربما بأسئلة روحية. وأسئلة وجودية. أسئلة لا تكون لها أجوبة البدايات. لأن البدايات الكتابية عادة ما تكون قلقة. ولكن الأمور تجري بأقصى ما يمكن، حين تختلط المشاعر بالمرئي، وبغير المرئي. فتنطلق العملية الرؤيوية بإندفاع كبير. تختار شكل التعبير. وتنتخب من المشاعر، ما يغذي الشكل القصصي الذي رست عليه السفينة. وأما القبطان الحاذق، والذي هو الكاتب، سرعان ما يدير الدفة، للإيغال بعيدا في عمق النفس، حتى يصنع الأبطال الذين يتشكلون في الذاكرة. كل ذلك، إنما يتم إستجابة لهذا الهاجس: الإرتحال إلى الأبعاد ذات الجذور الصوفية. هناك تكون الراحة ، من خلال الإتصال بالجذر الصوفي، حيث تتم المصالحة مع النفس. وتصير التصورات الصوفية للحياة، بوصفها رحلة روحية يومية متصلة بحنين للعود الأبدي.
الشاعرة سناء البنا، في ديوانها: ” أشجار الليل، بين العرف والعقل. دار فواصل. الفرات للنشر والتوزيع. رأس بيروت. شارع عبلة بناية بخعازي. ط1، 2019: 220 ص. تقريبا”، أقول: الشاعرة سناء البنا إنما جمعت الكثير من الشذرات الصوفية، التي تتحدث عن الطريق والوصول وحتمية الإرتحال. متئكة إلى التراث المأثور، عند التبريزي وجلال الدين الرومي، ورابعة العدوية. غير أنها في الوقت عينه، تطرح الكثير من الأسئلة الوجودية على نفسها، ككاتبة. بل كشاعرة. بل كقاصة. هذة الثلاثية المحيرة، التي تجعلها ترتقي على سلم الروح بشكل عفوي. فتغني الغربة وتغني الإنتظار. وتنشد الوصول. نستمع إليهاتقول في “ص٥٤”:
(داهمني غنج غض/ وأنا في عز الهوى أتأنق/ ما كللت/ أراقص فيض أطياف/ أبرمت البوح عقدا مع رغائبي/ ورقصت/ رقصت حتى ثمل الخلخال/ وتناثر الألق من جسدي.)
الشاعرة سناء البنا، تخلع كل تصوراتها في ديوانها. تجعلها من تجربتها الواقعية، تجربة مصطبغة بالرؤيا الوجودية والرؤيا الروحية. حتى لنكاد نرى فيها تجربة الرؤيا الرومنطقية الحالمة التي ترتاح إليها.
الغربة عند الشاعرة سناء البنا، تجربة مرة. تحمل مرارتها، في طويتها. إنها تجربة غير سعيدة، ولو أنها تجربة مؤثرة وغنية.
في ديوانها الأخير، أشجار الليل: يتجلى عندها البحث المعرفي، لمفهوم الشتات. وكذلك لفهم علاقة المنفي بالوطن، الذي خرج من ضلوعه قسرا. وإن كان قلبها لا يرحل معها، لأنه يجذبها دائما إلى الوراء. نستمع إليها تقول في “ص ١٨٨”:
( إعتنيت بعزلتي/ جعلتها مرقص الأشباح واللغات والشهوات/ أدركت ظعنى إكتظاظي بأناي/ حتى سحقتها/ تحولت راقصة/ ترفرف حول ناي ملتهب/ أدور في مدارات النفس بين أذرع متصوف/ وأبتهل لأصابعه تدغدغ حواسي.)
هذا ما يجمع بين التجربتين، عند الأستاذة سناء البنا: تجربة الشتات وقسوته، وهو تعبير عن الفقد والهجر والإحباط. وتجربة الصراع مع الماضي، الذي كثيرا ما نحمله معنا في حقائبنا. علما أن الفرق بين التجربتين، إنما هو في تراكم الخبرات في المنفى الإختياري. خبرة الوعي بالذات، مضافا إليها، خبرة التمزق والتشتت والضياع.
تنسج مجموعة “أشجار الليل”، شباك الروح على شجر الروح. ويصبح المكان، هو المحرك الأول للعاطفة التي هي حبيسة الأعماق. إنها المحاولة الناضجة للتعبير عن أوهام الخلاص والتحقق والتحرر والوصول للعالم البعدي. للعالم الأبدي.
كذلك تنسج هذة المجموعة عالم الشتات والضجر والموت والغربة. تنسج عالم المهمشين. تلاحقهم أشباح الماضي، إلى مدن النزوح. لان مثل “سناء البنا”، إنما تعيش في هجرة دائمة. في تحول دائم. أما عالم الهامش، فهو العالم الأكثر تأثيرا عليها. الأكثر عنفا. وأما الإقامة في عالم الهامش، فهو الإقامة في الهامش الثقافي والإجتماعي، بعيدا عن “أرض المحضن”. فهو هامشي، بحكم اللون أو العرق أو اللغة أو الثقافة. إنها بالتالي تجربةالغربة عن أرض الواقع، التي تولد الحنين الدائم، إلى ماض وأرض وثقافة وعالم لم يعد موجودا. وهذا ما يجعل “سناء البنا”، تلجأ إلى قبو الروح. وهناك يتم الإعتراف. وهناك يتم الإعتكاف. تقول في “ص ٢٣٦” :
( عيناك جوهر وجودي/ وأنا دائمة الحراك بين الحب واللاحب/ تلتقي في الوجود أو السماء/ ووجهي دائرة لا تتجزأ/ غيمة تتقن النبوءات/ وتقول إنك ستحبني أكثر/ تعال/ قبلني/ وتجسد.)
إلى ذلك نرى الشاعرة الأستاذة سناء البنا، تعيش تجربتها بين الكتابة والجندر. فنراها كأنها تقوم بعمل تخصصي. يبحث في آفاق النفس. هذا العالم المأهول. هذا العالم المهول، إنما يشكل عندها مفتاح الكتابة، أو هو المحرض على الكتابة. وهو إلى ذلك يشكل إفتتاحيات القصائد. ويجعل الشاعرة تذهب بعيدا في قراءاتها وفي تحليلاتها، وفي حضورها. تخلق العالم الموازي لعالم المؤنث. بل العالم الموارب، هربا من السطوة. هربا من الرقيب الإجتماعي. وذلك في حيل التعبير الأنثوي للبوح عن الجروح، ونشر الشباك في عالم الروح. نستمع إليها تقول في “ص٢٤٧”:
( كتبت لآدم مرارا/ أن يحبني على هامش المرايا/ وجها لا يتبدل بين النور والأثر/ كان كمن رأى في سره غبشا/ يكتبني ليلا/ ويمحوني نهارا.)
قصائدالشاعرة سناء البنا، تجمع في آن واحد، بين الغنائية، وهي في الغالب، غنائية صوفية. لكنها لا تخلو من بعد حسي، وبين عالم الإنصراف كليا إلى أوالية العبادة. تجتهد للترقي إلى عالم الروحانية، لتماثل شهيدات العشق الإلهي. وذلك من خلال إعادة الإعتبار للجوهر الإنساني والروحي معا لشخصيتها الشعرانية.
في شعر سناء البنا، ما يشي بجدالية الغياب والحضور. وهذا ما يشعر قارئها، بباطنية تختفي تحت البنية السردية الشعرية. إنها جدالية الحسي والروحي التي تنغمر بالحب و بالروحانية معا في آن. نستمع إليها تقول في ص٢٥٨:
(ليس لدي قناع آخر/ الحب/ في حضوري وغيابي/ لا واقي يعزل شمسك/ ولا حتى لسانك المعسول/ كل وجهي حروق.)
برأينا إن مجموعة “سناء البنا”، “أشجار الليل”، إنما لها إمتدادات روحية، أبعد من قصائد المجموعة المادية. ذلك لأنها ثرية بظلالها وبمعانيها وبمزاوجتها بين الواقعي والباطني والمتخيل، مما يجعلها تطرح شباك الروح، على عالم بعيد الآفاق، يعد بمجموعات أخرى، لم تولد بعد. ولهذا يقول الشاعر نعيم تلحوق عنها، على صفحة الغلاف الأخير لديوانها “أشجار الليل”:
( بعد “أدام وتاء الغواية”، و” رسائل إلى مولانا” تكمل سناء البنا في “أشجار الليل”، رحلتها مع الجرح النائم في غفوتها وصحوها، كأنها بذلك تريد أن تقول: إن الارض جرح لا جسد. وهو مفهوم “أدونيسي”، تحول إلى تأملات وجودية صارخة، لتعيد صياغة المشهد الكوني من جديد. وهذا ما يمكن أن أطلق عليه لقب “عشق المعنى”.