نشرت جريدة ” اللواء ” اللبنانية مقالة للكاتب والناقد الحسام محي الدين قرأ فيها ديوان الشاعر لامع الحر الصادر حديثا عن دار نلسن في بيروت تحت عنوان ” أنوثة يداري نسغها الطوفان ” ..وجاء في المقالة :
على هامش الشغف المتحوِّل: لامع الحرّ سجيناً!
يُحسِنُ لامع الحُرّ التّشكيل باللغة التي ترسم جدول القصائد المُنسكبةِ من ميازيب المعنى، حاسماً أمره في ارتياد الأخير وقطافه وعجنه قبل أن يخبز لنا رغيف
المُفردة الشهيّ، مؤكّداً أنّ الشِّعر قدرةٌ لا أمنيات وعِناد، أن تكونَ شاعراً شيء، وأن تتمنى ذلك شيء آخر مختلف تماما، ممّا وقَعَ لنا ولا يزال في مدوناتٍ هوجاء لفتيان وفتيات الشِّعر أمس واليوم. بهذا المستوى ندخل بمعية الحرّ توّاً إلى قصائده ببؤرةٍ نفسيةٍ مُشرِقة ومبدأ جماليٍّ نقيّ، يواكبُ سيرورة التجديد من الداخل لا القفز وراء سوق التّجزئة الشِّعري العالمي، ويطلبُ الجمال بالمطلق من دون تحديد تشكيلٍ أو تصوُّرٍ أو مثالٍ مُحدّد من ممكناته، في اتّفاقٍ وعويٍّ بين العقل والحسّ يدفعنا دائماً للبحث عن ضالتنا المنشودة ألا وهي أصالة الشّاعر. في ديوانه «أنوثةٌ يداري نُسْغَها الطّوفان» (بيروت، دار نلسن، ط 1، 2018)
وعلى امتداد ثلاثة عشر نصٍّ احتمالي، يحرثُ الشاعر العامليّ مجتهداً في أرضِ الابتكار، وهو يزجي قصائده على إيقاعات التفعيلة التي ندرك موسيقاها بالبديهة مبتعداً من الزّخرفة، متوسلاً تثوير أجناس التعالق المحسوس مع امرأةٍ يبادلُها الحبّ لا إراديا، مع ما يحمله ذلك من انقطاعٍ حيناً واتّصال أحياناً في تضادٍّ مُصاحِب لأجواء النصّ يكتسب شرعيته بموقفٍ مُعلنٍ مُعقلَن خامٍ واضح، شجاعٍ معياريٍّ وعمليّ، يوجّهُ فيه الأحاسيس في سبيلها الصحيح، بعيداً من التأوّهِ والتّنهد والمبالغة العاطفية، ودائماً على هامش المواجهة التاريخية بين الواقع والرومانسية. إنه، وبفهم عميق، ينسّق أشكال الحياة المتناقضة بين حبيبَين افتراقاً ولُقيا، مُنصرفاً إلى تغريضها بالدّلالات المثيرة التي يصبها ببراعة حداثية في وحدةٍ عضوية تحمل معنى السؤال عن كينونة المصير الجميل داخل كلٍّ منّا، حدَّ التقمُّص. يقول الحرّ:
أحبّكِ بالرّغم عني
وأطلقُ شوقي فضاءْ
يبدّدُ ما في فضائي من الحقد والأمنياتْ
… وتهتُ بنار غرامك طفلاً يهجّي الحروفَ
ويُصغي لنارِ الجَمال البعيدِ
وأسألُ طيفي
تراني سأحظى بصبحٍ سعيد؟!
تُراني سأمضي إليها كأني ارتشفتُ هواها بهاءً
وعِيدْ؟
في مثل هذا التصور الذي يحمل ويحتمل طزَاجَةَ الدّهشةِ وضرورتها فيما يبثه المنجز الشعري، تشكِّلُ المرأة هنا مجازاً إنسانياً مزروعاً بغراس المفارقات، لا تنبني حِجاجية القصيدة في التعامل معها إلا على وعْيِ لامع الحرّ حُرّاً، لكنه سجين الأنوثة المُطلَقة وهو يخاتل طبائع الظن القاسية جداً وهي تستنزفه بين الحقيقة والوهم والأمنيات في رحلة شغفه بامرأةٍ موعودٍ بها، بقلقٍ كُلّي، صرفٍ تراجيدي:
هل أنتِ إلهامي.. ومعجزتي الأخيرة.
أم سلامُ العائدين إلى فضاء الأغنيات؟
وهل يجيءُ الحبُّ مثل الضّوء
مرتاحاً على أوراقه البيضاء
أم سأظلُّ مأخوذاً بصوتٍ دافىءٍ
ينحلُّ في جسدي ويخترقُ الصّميم ؟
لا بدّ أنه يعيشُ موقفاً قاسياً مع أنثى تهدّد حلمه دائما، يمتدُ منها زمَنٌ مُرَمّزٌ لفعلِ اضطهادٍ متحوّلٍ بعمق عن موقفِ ما قبل الحبّ وما بعد الوقوع فيه، تضمحلُّ فيه أحاسيسُهُ بلا هوَادة وهو يحاول بعفويةٍ مثالية وعنفوانٍ سوريالي التمسك بها لسببٍ ما، إنّما بِوَعْيٍ عِلّيٍّ يؤكّدُ أنها ليست هنا سوى الآخرالمُركّب في ذاكرته، المُأوَّلُ بغموضٍ قويِّ الأحاسيس، متوتّرٍ حيناً ومُرسلٍ سَمْحٍ أحيانا، تتكور فيه فكرة الأدوار المتبادلة بين العاشق والمعشوق على حلمٍ جميل يبقى بعيد المنال وربّما مفقوداً حتى العَدَم:
هواكِ يفجّرُ شوقَ الحياة
إلى وردةٍ
لم تلامسْ رحيقَ النَّدَمْ
هواكِ جميلٌ
ولكنْ بغير هواكِ أسيرُ سريعاً إلى هوّةٍ
في أقاصي العدمْ.