( من قصيدة : عبد الأميرعبدالله يعود الى بنت جبيل)
للشاعر شوقي بزيع
-×-×-×-×-
لم يشتبهْ دمهم علَيّ ,
ولم يدلّ على ملامحهم دليلٌ
غير ما روتِ الأغاني عن وفاء عروقهم
بعهودها للنبع ,
أو ما سال من ظمأ الظهيرة فوق غصّتهمْ
وما ترك السجودُ على الجبينْ
ماءٌ وطينْ
هو كلّ حصتهم من الدنيا
التي حمَلوا جنازتها على أكتافهمْ
وتربّعوا كالأنبياء على العصورْ
يمشون في فجرٍ يفوق الوصف نحو الانتصار,
وخلفهم تمشي المآذنُ ,
والقرى الزرقاءُ
والراياتُ ,
والآياتُ ,
والغضب المرابط في الصدورْ
من كلّ حدبٍ أقبلوا ,
فقراءَ أو غرباءَ ,
مكفوفين أو صُماً ,
يُحيق بهم غروبُ ضفائر الأمواج في صيدا القديمةِ ,
والمساءُ الأرجوانيّ المرقّطُ
فوق زرقة بحر صورْ …
هذا أنا (عبد الأمير ) الحيّ ,
والمنسيّ في قبري المؤقّتِ ,
أستطيع الآن أن أعدو على العشب المحرّرِ ,
أن أطير الى الذرى الأولى
لأسمع من علوّ شاهقٍ خفقانَ أجنحة الطفولةِ
في النسيمِ ,
وأن أصيخ الى انقضاض الرعد من حرمونَ
نحو سفوح وادي التّيْمِ ,
أن أشتمّ صوت تنفّس النعناع في الظّلَم السحيقةِ ,
أن ألوّح للسماوات الرشيقة بالحنين ,
وأن أشذّب ما تيبّس من فروع التينِ
في سهل الخيامِ
هي ذي بلادي ملء عين القلبِ,
ترفلُ في حناجر مقرئيها الواقفين على الصباح ,
كأنهم شعراؤها الماضون أو أصداؤها
هوذا ترقْرُقُ مائها في السهل ,
تلميذاتها بالأزرق النيليّ يستشرفْنَ تحت الشمسِ
رمّان المراهقَة الخجولَ ,
وصفْرةُ القمح الذي يأْتَمّ بالشهداء ,
وهْي تُتمّ ركْعتها وتلمع كاليمامِ
هي ذي رثائيّاتُ زينبَ في أعالي الروح ,
سقفُ نواحها المطليّ بالحناء ,
حمّالاتُ صدر الأرض في وادي الحُجيْر,
والعطش الحسينيّ المعتّق في خوابي الدمع
والفجرُ المعلّق في دبابيس الغمامِ
أمشي ومن خلفي زحامُ الحشدِ ,
والولد الجنوبيّ الذي ترك الحقيبةَ فوق مقعده الكسولِ
وفرّ من ( صفّ الهواء ) الصعبِ
يقفزُ من أمامي
لم تبق إلا خطوةٌ
لأضمّ كالشفق الجريح هواءها المبحوحَ ,
وانكشفتْ أخيراً ملء ناظريَ الخفيضِ ,
كأنني موسى يطلّ من الجبال على أريحا
ثم يسقط قبل نفْخ الصّوُر مغشياً على رؤياهُ ,
أشهد أنني أبصرتها بالعين ,
أني جبْت ثانيةً أزقةَ سوقها الشعبيّ ,
والألقَ المرفرفَ تحت قوس النصرِ ,
والخشبَ المخلَعَ في نوافذها العتيقةِ ,
والصباحاتِ الطريّةَ ,
يا إلهي ..
لم تكن لتعيدني في صورةٍ أبهى الى دنياك ,
أو لتحمّل اللغةَ الكسيحةَ ما يفيض عن الكلامِ
الآن يمكن أن أموت كما أريدُ ,
وأن أنام كما أريدُ ,
وأن ترُدّ عليّ ( بنت جبيْل ) ثوبَ ترابها الأشهى ,
وأودِعُها عظامي
( من قصيدة : عبد الأميرعبدالله يعود الى بنت جبيل)