ألم الغرام ويومياته
الشذرة الحالمة، إنما هي الوعد الرومانسي الأبدي، لدى الأديب والشاعر والروائي والرسام والمسرحي والسينمائي. إنما هي نموذج الحداثة المؤثرة في صناعة الأدب بكل وجوهه وبكل فنونه. والعمل الروائي، من بين هذة الفنون جميعا، مرتبط بوعد الرومانسية مهما إبتعد عنها. مرتبط بهذا الفراغ البليغ في دنيا النفس البشرية. وهو مرتبط أيضا وأيضا، بتلك المساحة البيضاء التي تغذي التصورات والتخيلات، بالأسلوب الأدبي ذي النكهة الفلسفية. ذلك الأسلوب الذي يمازج بين الوقائع التاريخية وبين الوقائع العلمية، عن طريق الترابط الخفي بواسطة الخيال الروائي. حيث معبر القيم الإنسانية، بكل سلاستها، وبكل تعقيداتها، إلى العمل الروائي، خصوصا إذا ما ندت عن ذلك، مواقع التواصل الإجتماعي والتكنولوجي والإلكتروني، في قطار الزمن السريع.
بهذا المعنى، تجتاز الأستاذة ناريمان علوش، محنة العمل الروائي، بكل صبر وعناد. وبكل نرجسية أيضا لا تختلف عن مفهوم الرومانسية الحالمة في شيء. أوليس “نرسيس” نفسه، حين نظر إلى وجهه في الماء، كان في الوقت عينه، “إنسان عين” الرومانسية الحالمة: ( للبالغين نون النشوة- رواية. تأليف ناريمان علوش. دار ناريمان للنشر والطباعة والتوزيع. بيروت- طريق المطار. سنتر زعرور- ط4: لبنان. ط١ 2022. 200 ص تقريبا.)
على غلاف روايتها، ظهرت ناريمان علوش، نفسها بنفسها: ” ليس سهلا أن تكون المرأة شاعرة تتقلب أهواؤها مع تقلب مزاج قصيدتها. ليس سهلا أن تعيد المرأة ترتيب مشاعرها المبعثرة بعد تجربة زواج قاصر. وأن تمسح عن جسدها بصمات تجربة ولّت بعد أن غرزت في جلدها أظافر الحكاية. ليس سهلا أن تحتفظ بفساتينها التي تعبق بعطر العناق وبأشياء تبوح أو تنوح، بذكرى مناسبات رحلت مع الأمس وتركت في جوارير الزمن صورا تحدثنا عن الماضي، دون كلام.
ها هي إذا، ناريمان علوش: الشاعرة والروائية والإعلامية اللبنانية، صاحبة دار ناريمان للنشر. وصاحبة الإصدارات الستة: إمرأة عذراء، الصفحات البيضاء، نصف ضائع، إلى رجل يقرأ، رواية زواج قاصر، بالإضافة ألى رواية: نون النشوة التي بين يدينا.
ناريمان علوش لمن يريد أن يعرف قدراتها المتنوعة، إنما هي معدة ومقدمة برامج تلفيزيونية وإذاعية، منها: لحياة أسهل. أمسيات ثقافية. عالموعد. بيني وبينك وقومي يا بيروت. وغيرها. وقد حررت العديد من المقالات في الصحف الورقية والإلكترونية. وهي أيضا وأيضا، رئيسة تحرير مجلة ناريمان الثقافية الفصلية التي تصدر عن دار ناريمان للنشر.
وقد درست أديبتنا، برمجة الكومبيوتر ومن ثم الإعلام. وهي إلى ذلك كله، ناشطة ثقافية وإجتماعية. شاركت ونظمت العديد من الأمسيات والندوات والمؤتمرات في لبنان وخارجه. وهي حاليا، تقوم مع مجموعة من الشاعرات بتأسيس ملتقى الشاعرات العربيات. بالإضافة إلى كونها عضوا بالمجلس العربي للأدب والإعلام.
هاهي ناريمان علوش تقدم لنا وجوها مختلفة لتراجيديا الفناء والزوال، في روايتها هذة التي بين يدينا. وكذلك في مواضيع أخرى كثيرة من أعمالها الشعرية والنثرية على حد سواء. حتى لتكاد أن تحيي لنا عصرا بكامله، ملؤه التجربة الرومانسية الحالمة. تجربة مملوءة هي الأخرى، ب”ألم الغرام وتجربته اليومية” المعاشة، على كرِّ الزمن. نستمع إليها تقول في “الإهداء- ص ٥”:
( إلى الظل الأبيض الذي يفتح لي باب المعنى، كلما ضاقت الطريق، نحو الأمل، فتتسع الرؤيا.
إلى الشعراء الذين كتبوا فكذبوا وأحبوا فصدقوا، فتبعهم العاشقون….
إلى الحب ونشوة اللاوصول.)
تتخذ المؤلفة من روايتها الجديدة: ” للبالغين نون النشوة”، نموذجا تطبيقيا. تسرد فيه تجربة يومية معاشة. إنها تجربة الغرام، عند جيل الصبايا والشباب، وما يتصل بها من آلام. تقول في “ص ١٢”:
(دخلت إلى إستديو التصوير وكأنني أسبر الضوء وأشرب المدى.)
تعيد الكاتبة ناريمان علوش، كتابة النص الحي، الذي يحتشد على جوانبه وحوافيه عشاق الأدب ومتابعو التجربة الروائية الإبداعية الجديدة. تلك التجربة التي تعتمد على “تحيين” العمل الروائي، وربطه بأوالية متينة لدى جيل الشباب: سداه ولحمته الغرام والحب والمواعيد العرقوبية، وما يتصل بذلك من تداعيات نفسانية، على شخصيات الرواية، حين يكونون في حمأة الحب والغرام. نستمع إليها تقول في “ص٣٦”:
(في مجتمعاتنا أول ما يخطر في بال من حولنا، حين تطلب المرأة الطلاق، هو أنها تبحث عن مساحات تتسع لحريتها، ولممارسة رغباتها القلبية. أو ربما وجود رجل ما، إستحوذ على عاطفتها، فإنقادت له).
ثمة حوار خفي بين شخصيات الرواية، يحدث بما لا يحدث: ذلك أن “ثنائية الغرام وألمه”، مانعة للمكاشفة. حاجبة لكل ما يجب أن يقال. فيصير المحب ومحبوبه، إلى “مكابدة الموت اليومي”. إلى مكابدة “الكمد” القاتل. حتى ليصير جيل بكامله، يعيش في أتونه. ولا يبرحه إلا إلى “أباطح بني عذرة”: يمضون يومهم، من الضحى حتى الغروب في لطم الوجوه وفي لطم الصدور، من أثر الحب. نستمع إليها تقول في” ص- ٩٣: “
( حين أعلننا الشيخ زوجا وزوجة، شعرت بالفرحة تبرق دمعا في عيني أدهم. كما شعرت برعشات ضلوعه، وكأنها تلفظ ما كان فيها من خوف، ليحل مكانه الأمان والراحة.)
تمعن الروائية الصاعدة، ناريمان علوش، في تجسيد العلاقة الحميمة بين النص الروائي وشخوصه وأبطاله. تستدعي المفهوم المألوف/ المعنى المألوف لدى العشاق: “لن أستطيع العيش بدونك”. يعلق العاشق بمحبوبه ويحن إليه، لكنه لا يغني عنه. فللحب تتمة، عند صاحبة “نون النشوة”، لا يبوح بها، إلا في السريرة. إلا في الخفاء. لأنه في الأصل، إنما هو حب السريرة والتخفي والخفاء. نستمع إليها تقول في “ص- ١١٩”:
( كيف لي أن أتحمل ضعفي هذا، بعد أن كانوا يتماثلون بقوتي وقدرتي على حمل أوزان..)
الحب عند ناريمان، كما تجسده روايتها، هو من نوع الغرام القاتل. غرام يقتل صاحبه قبل أن يقتل غريمه. ولذلك هو ليس حبا نقليا. حبا آليا. بل تراه يأخذ القارئ، إلى تفجير معانيه في وجهه. وإلى تفجير الدلالات الدالة عليه. بما يتجاوز حتما النيات والمرامي الواعية عند الروائية ناريمان. إنه نوع من الدين الرمزي، من ذمة العاشق، إلى ذمة المعشوق. تقول في “ص- ١٣٥”:
( …لذلك ولكي أبلغ نون النشوة علي أولا أن أتوضأ هنا. وأعترف سرا بيني وبين النون، بأنني كنت إنسانا في هذة الحياة.)
لا الكاتبة ناريمان، ولا نصها الروائي الأخاذ، يتحكمان في اللعبة الروائية. بل هو الوعد الروائي المسكوت عنه. وقد إستطاع هذا الوعد الروائي الخفي في طيات الرواية، والمموه، والمرمز بجدارة، أن يجعل من الرواية عملية معقدة تتجاوز النصوص والحوارات. تماما كما تتجاوز كاتبتها، إلى ما خلفها. وهذا لعمري، مكمن النجاح الروائي. تقول في “ص- ١٤٥”:
( ماذا تفعلين في الأردن يا أفروديت؟ كيف تسافرين بصمت دون أن تخبريني؟ ما الذي خططتم له من خلف علمي. هل خدعتموني جميعا أم ماذا؟.)
إنها لتجربة في الكشف عن الخصائص الخبيئة للنص الروائي. وهي بنظري تبلغ حد خيانة النص لصاحبه. فيصبح بالتالي ، وقد بلغ النفوس وأستقرت به النوى. تاركا صاحبه خلفه، بلا وداع. هكذا “تفلت” الرواية من يد ناريمان- صاحبتها- وتتبيء صدور عشاقها وقرائها على حد سواء.
فعل منفتح بإمتياز يقود ناريمان إلى القول في روايتها الجادة، إنه لا يمكن أن يتفق قارئان على معنى واحد ينتمي للحب. حتى لكأن الإختلاف على الرواية، يبلغ حد العداوة. فهي لا تتردد في “الزج” بالقراء في إختبار مفتوح يكشف صعوبة الأزلية لفعل الغرام ولفعل الحب وقتيلهما معا. نستمع إليها تقول في “ص- ١٦٦”:
( …أجبتها بنعم لكنني لم أكن صادقة.)
لرواية نارميان علوش: “للبالغين نون النشوة”، نكهة خاصة، يكتسبها متن هذة الرواية التي تضج بالأحلام. وحقيقة ذلك، أن نصوصها وحواراتها، تصنع طائفة متذوقة من القراء، الذين يتابعون المؤلفة ناريمان بكل غبطة، بل بكل “شغف المريد”. فالرواية الحيّة، هي التي تعاد قراءتها عشرات المرات. أما التوقف عن قراءتها، فهو يعني حتما، وفاة الرواية. ورواية ناريمان علوش: “للبالغين نون النشوة”، سوف تظل حية في نفوس قرائها، لأنها جاذبة لإعادة القراءة، مرات ومرات. قراءة “ألم الغرام ويومياته” القاتلة. أليست هي التي تقول في ختام روايتها، “ص-١٩٩”: