المثقف الإشكالي
لفتني حقا، الكاتب إسماعيل الأمين إلى إشكاليتين إثنتين، في كتاباته، على تنوع موضوعاتها:
1- إشكالية المثقف.
2- إشكالية الثقافة.
كان هذا وحده كافيا لأن يكون جاذبا للقراءة. لأن يكون جاذبا لي: حين يحادث. وحين يترك وراءه مسوداته/ كتبه. مكتوباته القهرية. مكتوباته ذات اللون الأسود في الثقافة المعاصرة، فيحيلها إلى الرمادي. يجعل زيارتها ذات طبيعة مدهشة، مثل “إثنين الرماد”.
يخرج إسماعيل الأمين عن مألوف القول، وعن مألوف الكتابة. وهذا وحده، مبعث إهتمامي به اليوم. ذلك اليوم الذي تعرفت به على النوع المكتوب عند إسماعيل الأمين. وليس على شخصه. لأن مكتوباته، أعظم عندي من شاهد عياني على إشكالية المثقف، وعلى إشكاليةالثقافة، معا في آن.
انت ترى الكاتب إسماعيل الأمين، يثير الفضول في طروحاته. وأهم ما في ذلك، أنه حين يكتب، لا يحذر. ولا يخشى. بل يرسل ما في جعابه بكل إطمئنان، إلى جميع الجهات، بلا إنتظار ولو لثانية واحدة، حتى يرجع إليه الصدى، من شبابيك بريده. يحسم أمره فيما يعتقد. فيما يقول. دون أن يحسب حسابا لأحد. كائنا “ما” أو “من” كان هذا الأحد. لأنه يجعل لكل قول يصدره، أكثر من وجهة. أكثر من وجه. أكثر من معنى. أكثر من تأويل. أكثر من موقف.
في زحمة ذلك، تراه يختفي وراء الظلال، لا هروبا، بل رصدا. ولهذا وجدت فيه جميع صفات المثقف الإشكالي، الذي يقف على جميع الجبهات، دفعة واحدة. وفي البرهة الواحدة.
إنعكس المثقف الإشكالي/ الكاتب إسماعيل الأمين، في أعماله كلها. وهو لذلك قدم ثقافته الإشكالية، في كل مآتيه من الكتابات. ومن الأبحاث والكتب والقصص والمدونات. أقله فيما عرفت له مؤخرا:
١- “خرافة الفتوحات العسكرية: دين ودولة. أم دين وحضارة”. رياض الريس للطباعة والنشر. بيروت2018، 360ص تقريبا.
٢- “عام2084”. رياض الريس للطباعة والنشر. بيروت2011،125 ص. تقريبا.
٣- “أليس والكاهن: رواية فينيقية.” دار النهضة العربية. بيروت2011.240 ص. تقريبا.
شخصية المثقف الإشكالي، في حضوره وفي نقاشاته، وفي قراءاته وفي ثقافته، هي التي أسست لظهور وتبلور هذة الثقافة الإشكالية عند الكاتب إسماعيل الأمين. جعل لها قواعد. وجعل لها لبنات. وإنهمر يبني مداميكها، في كل الحقول. تراه يتجاوز السائد والمعروف، إلى كل ما هو غريب. إلى كل ما هو مجهول. إلى كل ما هو بعيد. إلى كل ماهو خارج عن المألوف. أو ليس هو نفسه، الذي كتب على ظهر غلاف كتابه: “أليس والكاهن”:
“للأسطورة والخرافة سطوة أشد ضراوة من سطوة التاريخ”.
” فالتاريخ مرتبط بزمن واحد ومكان واحد. بينما الأسطورة لكل زمان ومكان. الخرافة ترى بعين واحدة. عين القلب. والواقعة ترى بعيون العقل. للعقل ألف عين وللقلب عين واحدة. وإتفاق ألف عين أمر فيه مشقة. بينما العين الواحدة ترى ولا عين أخرى تساجلها أو تخدعها. الخرافة لغة الإيحاء والإحساس الساطع. والتاريخ لغة البيان الغامض. الخرافة تجمع والتاريخ يشتت. للخرافة الكلمة ومجازها. الكلمة للتسلية والمجاز لغز بديهي لا يدرك سره إلا القراء بين السطور.”
يؤسس الكاتب الإشكالي، إسماعيل الأمين إذا، للوجود الروحي المختلف. وللوجود السياسي المختلف. وللوجود الإجتماعي المختلف. وللوجود التربوي المختلف. يقرأ المهمل و المرمي على الحافة. يقرأ في الحاشية. يقرأ في الهامش. يؤسس لثقافة الهامشيين في دنيا السلطة، ذات “القوة القووية”. السلطة المبهورة بسلطتها الغاشمة. سلطتها العائمة على بحر من الدموع. وعلى بحر من الدماء. يبحث عن الوثائق المتعلقة بالمتناقض المحض. المتعلقة بالتناقض التاريخي. والتناقض الروحي. يبحث عن السياسي والروحي. ويسرد التفاصيل الخبيئة بين التلاوين. كأنه يكتب مذكراته، باللون الأسود. الذي يشي بالحزن.
يضع الكاتب إسماعيل الأمين رأسه بين مطرقتين: حين يكتب، أو حين يروي، أو حين يقص، أو حين يشرح ويفسر وينص. يبدأ من ناصية المعنى، ويأخذه إلى الظل. هناك يراه، كما لو يشتهي، بألوانه الكثيرة. وبمعانيه “الشتى”. فلا يترك لقارئه فرصة التخلي. لأن نصه شديد الجذب. ربما إستعرت جاذبيته، من جاذبية الأرض. فأخذ يدور حولها بحثا عن أفق. حين يرى الأرض، في العتمة الغاشمة، بلا أفق.
كتابات إسماعيل الأمين، من لدن الشخصيات الطاغية التي أنهكته. التي حرمته نعمة الراحة ولو لسويعة واحدة. ومن هكذا منطلق، نراه يعمل جهد المستطاع. جهد المتاح له، لتجاوز بقدر ما “القراءة التسليمة”. فهو لا يريد تدوير الحقيقة التاريخية، بقدر ما يريد تعريتها من أوساخها.
يذهب إسماعيل الأمين، بكل حرية، لتحطيم “الوثن الإيديولوجي”، كما عمل من قبل، لتحطيم “الوثن الروحي”. وهو بذلك يريد طرحا مختلفا، لجميع المتناقضات، ولجميع الصراعات، ولجميع المسلمات. إنه بذلك يريد بلوغ أوج الصراع المختلف، من خلال إستحضاره الكثير من التفاصيل والشهادات والأحداث التاريخانية، لتبيان وجوه المرحلة الفارقة في تاريخ البشرية.
خطاب الكاتب إسماعيل الأمين، أشقى ما فيه، أنه خطاب تفجيري لكل المعلوم. وأعظم مافيه، أنه خطاب هادئ. خال من التحيز والإفتئات. خال من الإنفعالية القاتلة لصاحبها. فهو في متن ما يقول، تجد فيه وصفة منضبطة وواعية. فيها الكثير من الإتزان. كما فيها الكثير من النقد الموضوعي، الذي يأخذ النتائج بأسبابها.
يوثق الأستاذ إسماعيل الأمين، من خلال كتبه ومكتوباته. ومن خلال مباحثه، ومناقشاته ونقاشاته، لجميع الإشكاليات الثقافية: للتاريخ النضالي والسياسي.وهو يتعمد الواقعية المتجاوزة لنفسها، والكياسة الغلبانة، والغالبة على أمرها، بما هو أمر، من تقطيع الجسور. لأنه يريد مد جسور التواصل. ويريد بالتالي تغليب لغة الحوار، وتكريس مبدأ الشفافية، حتى في المخبوء. وهذا ما يجعل سيرته في كتبه، تتجاوز المذكرات والشهادات، التي تنحو منحى المواجهات والصراعات. فقط هو يريد: التمييز بين تاريخين للثقافة الإنسانية: تاريخ متاح. وتاريخ غير متاح، يسعى وراءه. يعمل على نبش أسراره، من قبو الروح.
إسماعيل الأمين كاتبا، يمارس على قارئه إغراءه، بالنزول إلى البحر المضطرب، والإلتزام بالإنضباط الصارم، لأجل الوقوف على الترابط الممكن بين البيوغرافي والخيالي، لصالح التاريخ المشترك للأمم، وللبشرية جمعاء. يعرض مكتوباته، ب ” إيقاع حيادي يستند كل شيء فيها إلى الحسابات الباردة. تلك التي تتجنب النزق السياسي والروحي والإيديولوجي. كأنه يأخذنا عمدا: إلى عقلانيته وإلى واقعيته،
كنسق بديل عن المتاح والمتداول والمرتاد، من فنون العقلانية. ومن فنون الواقعية.
يسبر الكاتب الإشكالي إسماعيل الأمين، أغوار العلاقة بين السرد والثقافة الإشكالية. وذلك من منطلق أنهما مكونان سرديان بإمتياز. تجمعهما علاقة إشكالية تبادلية، في مصطلحين، ليسا متواشجين بالضرورة. يرفض التفسير الأخلاقي للوقائع والأحداث. تماما كما يرفض التفسير الإجتماعي والتفسير السياسي. ويعول فقط على عاملين أساسيين في التحول: البيئة والتاريخ. حيث يجد هناك الخرافات المتوارثة. والاساطير المؤسسة. فيحمل الجماعات على سرد نفسها بنفسها، في كل ما يقدمه لها. حيث هناك تبني خصوصيتها بيديها.إما بطريق المشابهة، او بطريق المخالفة. فيطول الحديث بين الكاتب والجماعة: أن المهم ليس أن نتقدم. بل أن نسأل: نتقدم نحو ماذا.؟