البنيان الشعري
ربما يكون الشعر، مدخلا لتفسير ما يعتور النفس الإنسانية، خلال مرحلة البدايات، بل خلال الأعوام التي يقطعها المرأ، عاما بعد عام. فينشأ البنيان النفسي، مدماكا مدماكا. ويبدأ البنيان الشعري، يأخذ مكانه في المسيرة الفنية.إذ لا شيء يملأ النفس إلا الفن. وسرعان ما يحتل القوالب الجاهزة في الأعماق، وأولها الرسم والشعر.
لا تشذ الشاعرة الأستاذة حكمت حسن عن هذة المعادلة، في الكتاب الذي أتحفت به المكتبة العربية بعامة ومنصة الشعر بخاصة: “قماش من أثير. حكمت حسن. دار نلسن. رأس بيروت 2022: 200ص تقريبا”.
هذا التورط في السرد الشعري، لمخبوء النفس، الذي تعلنه الشاعرة الأستاذة حكمت حسن، لم يعد، بإمكان صاحبه الحيدة عنه، منذ أن أعلن تودوروف صرخته المدوية: “الأدب في خطر”. فقد إكتشف هذا الناقد المعاصر الراحل كولارج، أن الناس كلهم شعراء، من حيث “الخيال الأولي”. ونحن نحتفل بأشعارهم، من خلال “خيالهم الثانوي”. وقديما في الجاهلية وفي سائر الحقبات الإبتدائية والرعوية، كان الناس يحتفلون لثلاث: “إنتاج ناقة، وولادة صبي. ونبوغ شاعر.” وما كانت صرخة تودوروف لتدوي في الأسماع، إلا بعد أن رأينا، كيف تتسبب المناهج الجامدة، بعزلة النقد الأدبي والأدب ذاته، لأنها ساوت بين النصوص، في قراءتها التاريخانية للظواهر الأدبية، دون أن تعيد الشعر إلى مرتبته الأولى في العمليات الإبداعية التي نشهدها اليوم. نستمع إليها تقول في “إقتفاء- ص22”:
(آثار يديك في الهواء/ بصمات لأشجار/ أوراقها تتغنى/ يهم الرمل بالتشفي/ فلطالما كانت ملاذا للضائعين/ تقودني لهما أحلام جانبية/ خيالاتها مضنية/ مضنية).
شاعرة واعدة، هي الأستاذة حكمت حسن. مسيرة شعرية، غنية ومتنوعة، في مجال الإبداع الشعري الواعد. تجاوزت فيها المجموعات المتنوعة والسنوات الطويلة. وقد تم تتويج أعمالها، بهذا الديوان الأخير: “قماش من أثير”. تقول في “كون رحب-71”:
(جفناي يتمهلان/ كصيف من نعاس يشكو/ ضوءا عجيبا لقمر/ لم يسافر يوما/ ينغلقان على تنهيدة/ لو حوصرت، لفاضت براكين من قصائد…)
يضم هذا الديوان الأثير للشاعرة حكمت حسن، أكثر من نيف ومئة قصيدة . ذلك لأن قصائدها، لا تتجاوز الصفحة الواحدة. أو الصفحتين على أعظم تقدير. فقد أفردت لأسطرها الشعرية مساحة الورقة البيضاء كلها، وجعلتها تشرب من محبرة قلبها وعينيها. نذكر لها بعض عناوينها: السماء ما زالت تعبث- إهتداء- سطور من أمومة- سباق الورق والماء- تأرجح العاصفة- ستائر جرداء-إمرأة- تلاوة صلاة- كون رحب -هواء مستعار- يدان من حكايا- صوت له مذاق- ليل وحيد- قطاف الربيع- تمهيدا للموت- ملكوت الأوراق- كوكب في زمن زهري- ذاكرة عاصفة- بإتجاهك أعدو- حلول المطر- همس الصخر وقال- قربان الحياة. وغيرها الكثير.
حكمت حسن( شباط- 1967)، مجازة في علم النفس. مربية ومرشدة وأخصائية تربوية. وناشطة إجتماعية. شاركت في مؤتمرات كثيرة.
وهي إلى ذلك، قد إنتسبت إلى إتحاد الكتاب اللبنانيين. لها كتاب بعنوان: “خاتم”. وآخر بعنوان: “ذئبة” . وثالث بعنوان: “مسمار”. وصدر لها أيضا: ” أكتب أحيانا، أكتب دائما”. وجميع دواوينها ومؤلفاتها، قد أصدرتها لها “دار نلسن” في رأس بيروت، تباعا منذ العام2015. فقلما يمر العام، ولا يولد لها كتاب في السوق.
لا يفوت القارئ، وهو يسافر بين هذة القصائد الروحية الممتعة، إلا أن يعبر عن دهشته، لما يجد أمامه من موضوعات شعرية متنوعة ومحكمة. حتى لتكاد أشعار حكمت تشكل البدايات، بل الجواهر، التي يبنى عليها. إنها بمثابة أحجار القلعة “للبنيان الشعري”، الذي أضاعه الناس، ووجدته الشاعرة حكمت حسن. نستمع إليها تحت عنوان: “عشق سحيق – ص98”:
(الموج/ وجع الأعماق الصامتة/ ندم السكون العميق/ تقلب بين الساكن والهارب/ ثغر/ بكاء/ فيض/ يا لتلك الأعماق.)
تكشف قصائد الديوان، عن جميع البنى الرمزية “للسلطات” المختلفة التي تتحكم عادة بقرار الإبداع الشعري وتوجهاته أيضا. وهي إذا كانت تتنقل بين موضوع وآخر، فإن تنقلها هذا لا يبدو بصورة عشوائية. فقد جعلت وحدة النفس، من جميع القصائد، تكاد تلتقي على قاسم مشترك واحد، وهو الإبداع في الضئيل حتى يتحول قراءة، إلى أمر عظيم. نستمع إليها تقول في ” طعام-118″:
(لو أن بكائي يتعاظم/ حين الدروب قدر مجنون/ لإستطاع صداي الخلود/ لجعلتك الأزهار/ ماء لم يفض/ دمعا قدره الدمع…/ لأطعمته يداي/ و أصبحت صغيرة صغيرة).
لطالما تشد الشاعرة والكاتبة حكمت حسن، ثنائية الخفي والعلني، في البنيان الشعري عندها. حيث يكون لديها ما هو حرفي ظاهر، وما هو رمزي خفي جوهر. كأن شعرها ينهض على عمارة نفسية عظيمة في داخل نفسها. وهي بنظري تعود لثقافة الشعب ومخيلته الإبداعية، التي أورثها إياها. نراها تلمس الشرخ القائم بين السائد، وبين المكتوم، وكأنها تسير بين العمائر والعشوائيات. أو بين العمائر العشوائية النفسية، فتستنهضها على أسس من القيم الجديدة. نستمع إليها تقول تحت عنوان ” غير قابل للأفول”:
(أطوف/ أتمدد والمي/ يحار الأفق/ النشيد بكاء/ أي بدايات تنتظرني؟!).
لا يخلو ديوان الشاعرة حكمت حسن، من فرضيات ساخرة، تحفز الخيال، حتى لو كان دافعها السخرية لا الواقع. فالإفتراض الخيالي، تأمل أن يتحقق على يد الناس، ولو بعد حين. تقول تحت عنوان “رفيف العيون- ص136”:
(أنفاس طويلة/ تتأصل/ أوردة ثقيلة/ لاحت أجنحتها/ إثر زمن حولناه).
تبدو قصائد الشاعرة الواعدة حكمت حسن، وكأنها تأملات الزمان اللبناني، بالنظر إلى المظاهر البسيطة المحيطة بها، وبالنظر أيضا إلى التواريخ العميقة، المرتبطة بالروح. ناهيك عن فضاء الريف، وفضاء المدينة، وظاهرة تمدد الروح، إلى الآفاق البعيدة، وإنحدار لغة الخطابات بين المجموعات الثقافية والسياسية والإجتماعية. وهذ ما يمكن أن يفسر سرعة القصيدة في ظهورها، وفي ردها. تقول تحت عنوان “ذاكرة- ص150”:
(موعد دائم تجلى/ ذاكرة وحدتي/ وجود لاح له سراب/ التوالد أراح كفيه/ صار عاصفة.).
حكمت حسن شاعرة النخب الثقافية. تريد أن تسكن البرهة، وتجعل من بنيانها، البنيان الشعري الراقي الذي يلجأ إليه الناس، طلبا للدفء. وطلبا للسكينة. وطلبا للتحفيز على إنطلاقة جديدة، في يوم جديد.