نشرت ” ضفة ثالثة / العربية نت ” قراءة نقدية لديوان الشاعرة حكمت حسن الجديد بقلم الكاتبة والشاعرة ميشلين مبارك وجاء فيه :
إنصهار الوجودية بالحرية في ديوان “قماش من أثير” للشاعرة حكمت حسن
بقلم الكاتبة ميشلين مبارك :
يتغذى الحبّ من قصائد حكمت حسن، تضيء الحروف مشاعلها لأوقات غارقة في الحزن. تهمس الشاعرة في أذن الكون قصيدتها. فتنكشف الغيوم رويدا رويدا عن وجه الضياء. هذا هو الاستقبال الذي تطالعنا بها قصائد ديوان “قماش من أثير” وهو الديوان الرابع للشاعرة حكمت حسن الصادر حديثا (نيسان 2022) عن دار نلسن في بيروت. إنّه ديوان مزروع بالقمح المذهب حتى الامتلاء على الرغم من سواد الغلاف الخارجي، يقع في 198 صفحة من الحجم الوسط. وهو الديوان الرابع للشاعرة بعد “خاتم (2016)، “مسمار” (2018)، و”ذئبة” (2019). أمّا الاهداء فإلى “حيث نظرت مراراً وتكراراً، الى الكون”. وسنكتشف معًا لماذا طغت هذه الكلمة الاخيرة على معظم قصائد الديوان ليظهر المقصد منها جلياً في الخاتمة.
هذه الشاعرة الآتية من علم النفس، عرفت كيف تعالج جوارحنا، كيف تفكك حصار أيامنا الرتيبة، نثرت في هذا الديوان عطور كلماتها المفعمة بالحنين، توالدت الحروف كزهور الربيع، صالحت الذات بالوجود حتى فاض الشعر وعمّ الكون. ليس غريبًا على الشاعرة حكمت حسن أن تأخذ من الاثير رداءها وتلبسنا معها هذا القماش المطرزّ بالجمال. هي التي قالت “نعم” للشعر عندما لبست “الخاتم” (عنوان ديوانها الاول)، ومن أجل الشعر، تحدّت “مسمار” (عنوان ديوانها الثاني) الحياة بكل مراراتها وخيباتها. وقفت تواجه في غابة الحياة “ذئبة” (عنوان ديوانها الثالث)، لا بل ذئاب كثيرة، فإذ بها تمدّ كل هذه الخيوط لتوحد المجرات المشرذمة بفعل اللاحبّ، فتعيد قدر الصوت الى الموسيقى، وفعل الحياة الى الكون.
بداية، يطالع القارئ في الديوان الجديد انتفاء التقسيم الواضح، إنما وبفعل التاريخ الزمني المذيل في خاتمة كل قصيدة وتسلسل المعنى الوجودي في القصائد بمجملها، إرتأينا تقسيم الديوان إلى ثلاثة أجزاء.
الجزء الاول يتضمن القصائد التي كتبتها الشاعرة في العام 2017، وفيه يطغى الشعر ذات التكثيف العاطفي النابع من الذات، من الانا الشاعرية في مخاطبة القارئ. فأتت القصائد لتشكل وحدة تتكامل تباعًا للتحليق في الكون الارحب، ويظهر ذلك عبر المفردات المستعملة في قصائدها مثل: الكوكب، الكون، الفضاء، الحدود، المحيط، البحر…برأيي إنّ كثرة إستعمال هذه المفردات أتت كمحاولة من الشاعرة لتطويع مشاعرها وأصواتها الداخلية في سبيل قدرة خارقة ربما إلهية أو غيرها، علّها تضيء عتمة المسافات فتفكك أسر الذات لتتوحد مع الكون. ففي قصيدة “مالت الوردة” على سبيل المثال، تقول:
“اتحادي مع الكون/ دام/هلا ترافقني حبيبي إليه/مال به كياني/سأسبقك/حيث الأبد من دوننا/ لا يكون”.
هذه الوجودية تعلنها الشاعرة في كل أجزاء الديوان، إنما بطغيان مشاعر القلق والخوف، فتارة تحاول إخفاء هذه المشاعر، وطورا تفصح عنها في محاولة لتدجين الالم الناتج الاساسي عن هذه الثورة الكيانية التي تشعر بها. والحقيقة أتى إستعمال الافعال المضارعة لتترجم هذا القلق. مثل: ترددت، ينوء، يشكي، يحجب وغيرها الكثير، فإذ بها تتماوج مع المفردات الكونية المذكورة سابقاً مثل مدّ البحر وجزره، حتى نصل أخيراً إلى فعل إنصهار بين الذات الشاعرية والكون. وبرأيي إنّ هذا الجزء من الديوان يختزن العلاقة بين المحسوس واللامحسوس، فيأتي توظيف الشعر لترجمة العلاقة بين العقل والحسّ، بهدف الوصول الى المؤاساة. وهو ما يذكرنا بنظرية أرسطو القائلة بأنّ “للشعر وظيفة فريدة في تطهير مشاعر البشر من المأساة”.
الجزء الثاني من ديوان “قماش من أثير” وهو الجزء الأكبر، يتضمن قصائد كتبت في العام 2018، فيه تتحقق الوجودية الشاعرية القلقة، حتى نكاد نقرأ ما بين السطور فلسفة مارتن هايدغر (الفيلسوف الالماني 1889-1976) المنادي بالفلسفة الوجودية الكينونية البعيدة عن الميتافيزيقية والتي تحاول نقل الممكن الى الواقع، والقصائد التي تحاكي هذا الوجود متعددة منها على سبيل المثال: قصيدة “حذاقة فكر” في الصفحة 80:
“ألتصق بنفسي/تغيب الاحتمالات/أتهاوى/أنفض الزّمان عنّي/ المكان الأسير ينفيني/أكون وجوداً لا كنه له/الحزن يشرّع مرساته/ينطفئ أمل السّؤال/تترصد أسواره الدّموع/يختلط الحاضر بالحاضر/تهيم التّعاريف/يواسي الفكر فكرًا لا واعيًا/رغبته أن يعي”.
في هذه القصيدة بالذات، تتكشف النفس الشاعرية القلقة عند حكمت حسن، وللقلق الوجودي دور مهم-بحسب تفسير هايدغر نفسه، يتمثل هذا الدور بإنتشال الانا من السقوط، لإرغامها على اختيار بين تركيبين وجوديين: الوجود الاصيل والوجود الزائف. لذلك نرى الشاعرة تلتصق بكينونها في محاولة منها، وإن حسبناها يائسة في بعض القصائد بفعل الحزن والألم، كما تقول في قصيدة “بعض من حماية”: أجلّ هذا الحزن / طريقي/لا حواف تحميني/ لا نهاية لأبدأ/ تعود إليّ أصداء /من رحيل وبكاء/لا أشجار تلفّه/ أشمّ رائحة انتظارها/ أعبر إلى الشمس…غير أنّ إنتشال أناها بالشعر هو الممكن لرغبة في النجاة من العدم.
يلاحظ القارئ في هذا الجزء، بأنّ غالبية القصائد تتأبط مفردات الطبيعة، فتلبس النهر، الغابة، البحر، العاصفة، الورد… ولعلّ الشاعرة تحاول بذلك كسر صمت الوجود بصدى مناداتها للحياة. هي تبتهل للمطر، للماء…تراقص الرياح دموع حكايات مستكينة، ربما منسية، إنما حتمًا موجودة. ففي قصيدة “معاطف المطر” (في الصفحة 86) تقول حسن:
“الصّمت اكتمل/الصّوت انشطر/كيف يعقل أن تكون الجرح الذي يغفو؟/خبأ الشّتاء زهوري البريّة/في جعبة منسيّة/دموعها عصيّة قبل السّفر/حدقت بنا/كما الرّمز المنتظر/حين يتردّد في حدّة المشاعر/الصّمت يهاب الاحتواء/يؤرّقه احتمال/عدّة احتمالات/يخاف أن تمتهن الغيوم لذّة الإختفاء/كنّا على ضفافه زمنًا/بحرًا/اشتاقنا/كما هدوء المغيب عند الأفق/رسالات الأمواج/جفاف/الصّمت حين السّهر/أثيرٌ من هباء”.
في هذه القصيدة بالذات كما في العديد منها أيضًا، نلاحظ تقصد الشاعرة استعمال أسلوب الطباق، فالعديد من الجمل تتضمن تضادًا مثل: الصّمت والصّوت، الاكتمال والانشطار، الشّتاء والزهور…ولعمري إنّ هذا الاسلوب يذكرنا بأسلوب جبران خليل جبران وخاصة في كتابه “دمعة وابتسامة” لاسيما في تقصده استعمال التضاد بحيث لم يكن باستطاعته أن يخاطب الليل مثلا دون استحضار النهار لتخرج القصيدة بتكثيف عاطفي في المعنى مع جمالية الاسلوب في المبنى. والحق يُقال بأنّ هذا الأسلوب اعتمده العديد من الشعراء والادباء بعد جبران خليل جبران، إنما قلّة منهم من استطاع التوفيق بهذه النتيجة الجمالية كما استطاعت الشاعرة حكمت حسن. وقد تظهر سمة الطباق أيضاً في عناوين القصائد من دون الحاجة الى الدخول في مضامينها مثال على ذلك “حاجز من أجنحة”، “سفرٌ من دون دوي”، “قماش عارٍ” وإلى ما هنالك.
في نهاية الجزء الثاني وبداية الجزء الاخير من الديوان، يظل الصّوت ينادي حتى الاتصال بالزّمن، وتستمر أفكار الشاعرة تنبئ بالمستحيل حتى يتحول التمني إلى ممكن. عندها يتحقق العبور إلى الضفة الأخرى أي الوجود الأصيل، وتهمس الأسطورة بالكلمة السحرية. فما هي؟
الجواب نستشفه عندما يتسع المدى في القصائد، فتنمو الحقول سنابل ذهبية، يخلع الحزن رداء الوحدة، فيتنفس الإنتظار. على أرض ديوان “قماش من أثير”، يداهمنا هواء يوقظ الفكر، أملٌ تحمله أجنحة كواكب الشعر، تهتف بـ “الحريّة”. فتعلن الشاعرة في قصيدة “تمهيدًا للموت” في الصفحة 128:
“الصراخ/حاجة الوجود/أيحتاج الصّمت إلى تمهيد/أيكون الصّوت الحياة/والطبيعة ملهاةً لنا/أيكتمل الحبّ باستفاقة العدم؟/كنوزٌ محرّمة/أصوات ما زالت تولد/وحناجر/حسبتها الطّيور أعشاشًا/الحريّة/صرخة مدوّية/وعازفون.”
بطبيعة الحال، ترد في الديوان بشكل عام وفي الجزء الأخير بشكل خاص كلمتا “الصوت والكون”. لا شك بأنّ الشاعرة أضافت من ذاتها صوتًا عاصفًا في وجه الرّيح، متحدّية الزّمن وبرأيي هي تقصدت هذا التكرار في تلك المفردات للتكثيف في المعاني بحيث وظفتها في أكثر من قصيدة فنوعت في غايات استعمالاتها.
بعد هذه الثورة في عواصف شعرية فلسفية وجودية، تختتم حسن ديوانها بهدوء البوح وهمس القلب حين يكتسي بالحريّة، تهتدي المنارة لنور القمر، فتلتصق جميع العناصر بالعشق، عندها تعلن الذات أنها تنتمي للمعشوق إلى الأبد، كما في قصيدة “بكلّيّتها” في الصفحة 187:
“كنتُ عاصفة لم تكتف/شرّعت أنيابها/ الدّماء قِبلة/تتّسع كلّما تدحرجت/تزيح ما بقي من هواء/سدّ يومًا دروبي إليك/يد ترسم أنثى/حين العتم تصبح الدّلالة/إشارات الخلاص.”
هذا هو الجسر الذي وصلته الكاتبة في لغتها الشعرية بين الذات والقارئ من جهة وبين الكون من جهة أخرى، بحيث امتلكت القدرة على ربط الكيان بالوجود عبر عملية إنتماء نورانية. فكيّفت اللاوعي الباطني بوعي الشاعرة لذاتها واختيارها الحرّ لأهدافها. وبتقديري إنّ الشعر هنا استوعب مضمون علم النفس والفلسفة، وليس العكس إطلاقًا.
هي الحريّة “قربان الحياة” (آخر قصائد الديوان في الصفحة 188) تختتم الشاعرة حكمت حسن فتبوح:
مجرى وضفتان يتلاحمون
أتلمّس الجبال البعيدة
أقرأ في كفّك رواياتٍ
قصصًا عن طفولة
عن كهولة
يبقى الماء فتيًّا
يعصى عليه الزّمن
يقتاده الحنين
كم ألبستني زندًا
ليقيني ما يكون
فيما لو اندثرت سجوني
وتحرّرنا!