الشاعر نعيم تلحوق في جديده سردية المعنى- “أرض الزئبق”:
نحن عالقون في منفى ذواتنا والكل يتآمر على الكل
-×-×-×-×-
كتبت الاعلامية كلود أبو شقرا لمجلة أفكار اغترابية ( العدد العاشر ) ;
عندما صفعه والده وهو في التاسعة من عمره، وذابت طراوة الخد مع دموع حبسها عنه أسبوعًا كاملا، لم يكن الشاعر نعيم تلحوق يعلم أن هذه الصفعة ستقوده إلى رحلة طويلة، لا نهاية لها، نحو اكتشاف المعنى في أعماق ذاته، في الحياة والوجود والإنسان…
لم يرغب في معرفة لماذا صفعه والده تلك الصفعة لكنه احتاج عمرًا كثيرًا بعدها وهو يبكي لأنه لم يصفعه سوى صفعة واحدة قبل أن تلده الحياة، مرة تلو أخرى… “الحياة صفعات مؤكدة دون استنتاج حقيقي بأنك تمارس حريتك وتثبت كيانك، وتؤلف شخصيتك… لكن ما عجبت له هو أني ما كنت أعلم ما الذي كان يدفعني للبحث عن شيء لم أعرفه بي”، يقول.
دفعته هذه الصفعة إلى كشف الحجاب عن عينيه ليرى، وتمكّن، بقدرة فائقة، من تحويل المشهد إلى صورة والصورة إلى معنى، والمعنى إلى خلاصة عبر محاورة ذاتية ونقدية ضمها كتاب سردية المعنى – “أرض الزئبق” الصادر أخيرًا في بيروت عن دار فواصل، أعاد فيه تشكيل الكون وفق رؤى ومفاهيم روائية، شعرية، فلسفية وإنسانية لا إلهية، وخطاب ثقافي -سياسي وعلمي… ودعا إلى التفكير مرة جديدة “لإعادة النظر بما ارتكبنا من أخطاء اعتبرناها صحّاً، وكم من صحيح عرفناه فاكتشفنا أنه من الأخطاء الكبيرة”، على حد تعبيره.
عبر سياق تأليفي إبداعي للكون وبداياته مع النور الأسمى والنور الأنقى، “الله واللات” في رحلة واحدة، “أنّث” الوجود بدءًا من جرح العدم الذي هو رحم المرأة حتى دخولنا في عالم اللطيف لنعود ونخرج إلى الكثيف الذي لم يحسن التعامل مع اللطافة، فبدأت أخطاء البشرية تمتد حتى صرنا إلى ما نحن عليه، “ابليس يتكلم والله يصمت” ابليس يكتب والله يمحو، لأن الله لا يقول ولا يتكلّم مع أحد، هو يوحي فقط.
تجاربه مع المرأة هي المعنى الذي أسّس عليه تلحوق سرديته مع معظم النساء اللواتي عرفهنّ في حياته…لهذا جاء أهداؤه السردية “الى أمي اللغة، وأبي المعنى، رواية لن تكتمل فصولاً ” ما يشير بأن المعنى عنده لا ينتهي حتى يتجسّد النور الأسمى ويعلن عن نفسه”، فاللغة هي وسيلة المعنى الذي هو الغاية وهي بدورها غاية الغايات…
على مدار سبعة عشر نصّاً، تبدأ بـ “ذاكرة التراب” و”الرحلة نحو المجرة” و”سبيل المعنى” مروراً بـ “عبث اللغة” و”طريق التعب” وصولاً إلى “جسد المعنى” وسقوطه وسكونه حتى “المعنى من المعنى”، يضيء نعيم تلحوق على داخل النفس بغية كشف أسرارها، مستعملاً قدرته التخيليّة على فكّ المعادلة الوجودية عبر استخدامه المصطلحات الصوفية والفلسفية والرموز الدينية والظواهر العلمية لاستخراج المكنون منها الى ضمير المعنى.
الكتابة والمرأة
“وأنا على باب العمر الذي لا استحقه، لم أتمكّن إلا أن أحب أحدًا يطير بروحي إلى أمكنة لا أفهمها، يسير إلى شطٍ لا أدريه، يفهمني ولا أفهمه… كل ما أعرفه أني لا أعرفه”…
هذا الـ “أحد” الذي يطير بروحه هو اثنان: الكتابة التي يدلل الحروف ويغني موسيقاها… كيف لا وقد أعاد الله مسرحة الوجود على شاكلة حروف، ونقاط، وفواصِل، ودوائر… وجعل من المعرفة معبدًا لصلاة العاشقين… المعبد هذا، عند نعيم تلحوق هو النقطة الكبرى التي ترتكز عليها كل الصفات… البداية والنهاية… الأزل والأبد… السرّ السرمد… وترك العالم وهمًا مستطاعًا لبلوغ سرّ الوجود (المعرفة الكبرى).
والمرأة-الحرية التي تضيء كلما ارتعشت، تصرخ كلما بلغت، تمحو بقلبها معالم الفراغ المستحيل، لتُحيله ممكنًا، كلما تمخّض رحمها بالخلاص… اخترعت الوجود بِجرح، بتفاحة، بإغواء… ورسمت رجالا كثيرين ليقابلونها… امرأة تسوّق عالمها كما مفهومها، كائن افتراضي لكنّه سرّي لا يفهمه إلا الذي اخترعه، يحمل تعب المسافة للوصول إلى الصوت… امرأة يكون جسدها مرآة عقل الشاعر، وحركتها منارة روحه، وأفكارها أثمن من شجاعته، وأعظم من هويته… قلبها غفور، مسامح، كريم، لا يذهب معه بأسئلة بعيدة… تكسر خجلها على صمته الباحث عن الله فيها…
الخوف
منذ يناعه بدأت القضايا تتحرك في داخل نعيم تلحوق لتشعره بالخروج من مكان إلى آخر… كلما ضحكت أمه في وجهه، عرف أن خوفًا عارمًا يداهمها، وكلما ناص قنديل في زوايا البيت، أو انطفت شمعة في خبايا الضوء أدرك أن الخوف يخامر مقلتيها…
للمرة الأولى وفي تلك المرحلة المبكرة من عمره غاص في معنى الخوف، قرر تمزيق الحجب، فولدت اللحظة في داخله يقظة جديدة، معنى جديدًا كبيرًا، كريمًا، وعميقًا…
كبر الشاعر وصال وجال في الحياة والوجود، صار زئبقًا من تراب… لكنه ما زال يبحث عن علة تقيه متعة السقوط… كل ما حوله متحرك إلى ما لا نهاية، لا يعرف معنى واحدًا، في كل لحظة تولد ومضة ترسم في ذاته لمعات من نور تسمو به إلى ما فوق الأشياء وتحوّل المادة إلى رمز ينغرز في عمق أعماق الوجود، فالتراب أديم العمر وسكون الفجر… والثبات وهم، والدوائر لعبة كونية تقتضي الاعتراف بأن من جعل الكون يدور لا يخطئ فيزيائيًا…
المدى والحرية
ابن القرى هو الشاعر نعيم تلحوق، والقرى بنظره هي مدى مفتوح على الحرية والحلم بالفرادة، ولأنه يريد شيئًا أبهى من الحياة ليستحق شرف الانتساب إلى الحرية والفضاء، ولأنه يرفض منطق “واحد زائد واحد يساوي اثنين”، كونه منطقًا افتراضيًا أحاديًا رافضًا لأي منطق آخر لتوازن بين أكثر من لون، وتجمع أكثر من معنى… ولأن لا باب يوقظ وحدته سوى نافذة الروح الموصولة بوحشتها (الأبواب تشيخ في الغرف الباردة كما النوافذ)… ولأنه يشعر بعظمته حين يتناهى إلى روحه شيء من السكينة، رسم الكون وما فيه كائنًا حيًّا جاء ثمرة علاقة سريّة بين المدى والمعنى… الشجرة غيمة تقاذفتها الريح، فبنت خيمتها بعيدًا عن المكان… أخبرت المدى عن مكانها، ليس حظوة ولا تباهيًا، وإنما ليتنفس الهواء… الألوان المخترعة من الأسود والأبيض لغز كبير لم يصل أحدهم إلى معرفة حقيقتها… النور رسام الحقيقة والضوء كاشف الظل… العتمة لا تعني الظلمة، “الأولى تحميك، والثانية تدنيك، تسرقك من الآنية إلى كل الجهات، تجعل منك إلهًا من صنف واحد”… استدرجته الوردة ليملكها وفوجئ بأنها لا تملك تعبيرًا عن نفسها كي تقول، كما المرء لا يملك لغة للتعبير عنها “فتعبير الوردة عبيرها وتعبير المرأة شذاها”…
الله والوجود
يحتاج الإنسان إلى إله أكثر من حاجته لنفسه ليحميه وينقذه من الخوف والضياع والموت… وقد يكون الإله شخصًا أو قبيلة أو حزبًا، أو طائفة… من هنا يقول تلحوق يمكن أن تجد في العالم على ما يبدو ألف إله مقابل إنسان واحد… ويتساءل: هل وجدنا لنأكل ونشرب وننام ونمارس الجنس، أم أن المعنى من وجودنا ملتصق بصفة لم ندركها بعد؟ وأين هو الله في كل هذا الوجود؟
يجيب: “نحن مخلوقات حيضية لأننا من رحم أم هي الأرض، وكل توارث لا ينبئ إلا على شبيهه أو مثيله… العالم يتغيّر، كما الله في تغير دائم… نحن نبحث لنعرف، وهو يبحث ليجد… نحن نريد أن نعرف أنفسنا وهو يريد أن يجد نفسه ليستقرّ… معادلتان تقومان في نفس الخطوة وذات الاتجاه، لكنهما لا تلتقيان… قررت أن ارسم طموحًا أقل، هو أن احمي ذاتي من التاريخ… الله موصول بعرش لن تعرفه إلا إذا أعلن هو فيه عن نفسه، فهو الذات العليا التي ليس قبلها ولا بعدها أحد أو أثر؟ وأنه أكثر من عدد فلا هو فرد ولا أحد… إنه هو كما هو… لا يحدّه حدّ ولا يسعه مدّ…”
الثقافة والفلسفة
لا تكمن الثقافة عند نعيم تلحوق في القراءات ولا في عدد الكتب التي نؤلفها أو ننشرها، وإنما في استدلال المعنى التابع لها… الثقافة بالنسبة إليه في المجهول من الكلام لا في المعلوم منه، والغموض في الرحلة هو في ثقافة الفهم قبل ثقافة الوعي…
أما الفلسفة فمادة أفيونية تجعلك تستلقي على ظهرك باحثًا عن الله لتجد في نهاية المطاف جسدك واقفًا على التباس واقع في الوجود الزائف… لا ثوابت في المادة الحية … الماء-أصل الوجود- يتغير لكن يبقى اسمها ماء، حتى العلم الذي يبحث عن الحياة غير ثابت… الثابت الوحيد هو التطو، ولم يزل الله في تطور دائم…
من نحن؟
حين قرأ نعيم تلحوق أنطون سعاده نكزه بسؤال: من نحن؟ فوجد نفسه في خضم صراع مع حقيقته… وبدأت الثورة تلمع في داخله أسئلة مشتعلة، لكنها كانت متمردة أكثر منها ثورية… فقد سمع عاصي الرحباني يقول مرة: “أنا متمرد ولست ثوريًا… الثوري هو كلب السلطة يطيح بها ليمثل مكانها وليمارس أبشع صنوف الكلبية… أما المتمرد فهو الذي يحزر الخطأ في داخله وهو في أعلى مراده وينتقد نفسه… أو بستقيل من أعلى سلطته لينال حظوة وشرف الخطأ الذي قام به”…
هذا الصراع مع حقيقته أدخله في صراع مع عصر التكنولوجيا والوسائل الحديثة، حيث كل شيء يتكلم عنا، إنها مرحلة الاستهلاك الثقافي إلى أبعد حد… يقول: “حين صنعنا الكتاب كنا نقرأه لأنه من إنتاجنا، وحين توقفنا عن الإنتاج صرنا مستهلكين، لذلك نحن لم نصنع حداثتنا بعد… غيابنا عن الدفء والحنين إلى الورق… أرسى قاعدة الوهم الضوئي الذي عبر الحدود… فلم يعد هناك مسافات جغرافية بين الدول… فلا وازع ولا رادع ولا من يحاسب”…
كذلك أدخله هذا الصراع مع حقيقته إلى رسم علامة استفهام: كيف يمكن أن يتحرر العالم ليصبح فريدًا، دون كلمة وازنة تعيده إلى صوابه؟ فالحراك الثقافي اليوم يمر في مرحلة مستعرة ومتأججة بسبب سهولة النشر، طمعًا في الشهرة، وصارت اللقاءات الثقافية نوعًا من البرستيج الاجتماعي، وأخذت مجموعة من العناصر الدونية تطفو على السطح، بسبب الاستسهال الكلامي دون معرفة المعنى… فكان هناك جماعة أهل الظاهر وهم كثر… أما الذين يعرفون أن الكلمة هي الحقيقة وليست حروفًا، فهم نادرون…
وحدها اللغة هي الحياة، وطالما نحن نبحث عن المعنى فإننا نبحث عن اللغة فينا لنصل إلى حقيقة الأصل… لذا سيكمل نعيم تلحوق التجربة بعبارة جديدة ثم يروح إلى فضاءات أوسع ليختم رحلته مع الزمن برواية تحكي عن معنى وجودنا في هذا العالم والوظائف التي تحكمنا ولم نعِ الغرض منها…
منفى الذات
يقول الفيلسوف الألماني هايدغر: “حين نسينا الوجود رحنا نفكر بالموجود”… من هذه المقولة انطلق نعيم تلحوق ليقيّم العلاقة بين العقل والنورانية ويتساءل: “ما جدوى أن نكون نورانيين طالما لم نصل إلى مرحلة العقل بعد؟ نريد أن نكون عقلانيين قبل أن نصبح نورًا… إنها معركة صادمة بين الكثيف واللطيف… وسيدنا العقل رابض خلف الجبل وفي قلب الجبل براكين من لهب ودخان… أنا مولود في عالم مليء بالثرثرة والثرثرة بناء ضخم لأنظمة الخوف، لأن الخوف لا يعمل. وحين اقتربت من معرفة شيء لا يدركه سواي… خفت من بوح ذلك حتى في سري، فأدركت أن قول الحقيقة أخطر من عدم قولها فرسمت صورة لظلي وأعلنت العصيان على ترهاتي”…
المعنى… عصيان
المعنى عند نعيم تلحوق هو عصيان اللحظة دائمًا وأبدًا، أما اللغة فهي اجترار المرئي من الأوقات… وفي هذا السياق رسم مفاهيمه في الحياة:
نحن عالقون في منفى ذواتنا والكل يتآمر على الكل.
-لست مع الجدال بوصفه إشكالا إنما لأنه اختلاف يؤسس لإلغاء.
-لا يمكن لحياة أن تستقيم في شكل، في ظل، في ليل، في نهار… بات من الضروري أن نحمي وهمنا من الحياة وخيالنا من القتل المبرمج.
-اللغة هي في المحو لا في الإملاء والإنشاء، والحقيقة هي في الصمت الذي لم يرشح حروفًا…
-النقاء هو اختفاء اللحظة التي لم تعد بيننا، هي في صمت الأمكنة ومحو المسافات.
-الله هو لغة المحو لا الكتابة…
أنا الإنسان الجديد، فقدت الهوية، وتيقنت أن على الشاعر أن يكون كصاحب العقيدة النص وصاحبه واحد… فلا يمكن أن افصل بين ما أنا وعما أقول وعما أكتب فأعذب الشعر أصدقه لا أكذبه…
-آمنت بأنه لا يجوز أن افصل الأخلاقيات عن الأدب… فلست أفهم كيف أكتب عن العصفور وأقتل العصافير ببندقية “دك” أو أن أصلي الدبق لأذبحه بريشته؟ مجرم يكتب عن جمال العالم…
الشاعر نعيم تلحوق له أكثر من عشرة أعمال شعرية: “قيامة العدم” (1986)، “هي القصيدة الأخيرة” (1990)، “لكن ليس الآن” (1992)، “وطن الرماد” (1994)، “هو الأخير” (1999)، “أظنُّه وحدي” (2001)، “يغني بوحاً” (2005)، “يرقص كفراً” (2007)، “لأن جسدها” (2012)، “شهوة القيامة” (2013)، “فرس الكتاب” (2015).
صُنّف كشاعر له امتداده على مساحة العالم العربي، لكن المتابع لأعماله يدرك أن تلحوق أديب متنوّر على مستوى ثقافي عالٍ، ويحظى بشخصية خاصة به تميّزه عن سائر الشعراء والكتّاب اللبنانين والعرب لناحية اللون الذي اختطّه لنفسه، وهو مزيج بين الصوفية والشعرية الجمالية والفلسفة والحكمة وقصيدة الصورة والمعنى… فتحار من يكون ، هو مجموعة أشخاص في رجل، فهو من الصامتين حين يكون الصمت كلاماً، ومن المتكلّمين حين يصبح الكلام شعراً وفكراً وفلسفة…