حب اليافعين
لا يعدو الحب، أن يقول لنا، منذ الطفولة وحتى اليفاعة والفتوة والشباب والرجولة: “كون كونك” وحسب.
ذلك لأن “الحب” وحده، هو الذي يمرحل الزمن لصاحبه، ويعطيه في كل وقت ظله. تماما مثل الشمس: في الشروق وفي الضحى وفي الظهيرة وفي العصر وفي الغروب.
تجاوز الحب مرحلة الفجر، لأنها مرحلة تكوينية في عتمة الليل. في عتمة الرحم. تماما مثلما تجاوز مرحلة العشية، لأنها تأذن له بالدخول في عتمة الليل، والتسلل من جديد، إلى عتمة الرحم. فالعتمة أبتداء تكويني. وهو كذلك إنتهاء تكويني، ليبتدئ التكوين الجديد.
الحب إذا مثل الشمس، فصول نهارية طبيعية، تتمرحل مع زمن الشمس. أوليس الحب نفسه، هو شمس صاحبه. أوليس هو آنيته. وبه يتم التكوين، من خلال الإناء: إناء الحب الذي تلون فيه، بتلون الشمس، في تمرحلها عليه.
وحده صالح الأشمر، تجرأ على الحب. صنع له معجزة. فضضته. صنع من شمسه الذهبية، شمسا فضية، تتأبد في الفصول جميعا. تلك التي تدور عليها الشمس. جعل للحب شمسا فضية. لعب بالألوان، كما الفنان التشكيلي، وشكل من ذهب الشمس. من ذهب الحب، لونا فضيا يتخلل جميع الفصول. يناسب كل الأعمار. لونا مجازيا، لا يرى بالعين المجردة، وإنما يلي البدن مباشرة. ليدع يد الشمس الذهبية، تقول بعد ذلك، ما تقول.
يجدد صالح الأشمر لون الحب، في ديوانه: “حب لكل الفصول. منشورات دار الجمل. بيروت- بغداد2020 :(160 ص تقريبا) تتصدرها مقدمة وافية، بقلم الشاعر الصديق، د. محمد علي شمس الدين. يقدم للعشاق من كل الأعمار، أنواعا من الفرص. يريد أن يجدد مكتباتهم الشعرية المنزلية. يرفدها بأحدث قصصه وأخباره ورواياته. يطعمها بأنفاسه الخاصة. يصوغ منها شعرا فضيا، يفضض به العمر، كما تفضض الشمس الأرض، تحت مطر الحب، يوم دجنها. يقول الشاعر، في رباعيته “أيقونة- ص16:
حرة أنت ودنياك لك
والأماني كلها في يدك.
زهرة ريانة فواحة
تنشي الروح بزاكي عطرك.
انت في دنيا الهوى أيقونة
ساىر الأنظار ترنو إليك.
ليت لي تعويذةسحرية
تردع العشاق أن يغروا بك.
أليس الحب عند صالح الأشمر، دجن صاحبه، وتحوله عن القصف والعصف و اللمعان والبروق، وشدة القيظ، إلى صحو صفاء الكوثر واللجين. جزر ولا مد .
هذة المجموعة الشعرية، التي تضم رباعياته، هي منتقى أوراق الشعر الذي قطعها. بل هي منتقى أوراق العمر الذي قطعه. لا فرق عند صالح الأشمر، بين العمر وبين الشعر. فمثلما يعبر العمر كل الفصول، أراد لظله / الشعر، أن يسلك معه، في رحلة دؤوبة، يقطع فيها جميع مراحل العمر، على أساس من وحدة النفس و”متلازمتها”، التي هي وحدة الشعر. يقول في “واقع الحال- ص30”:
واهم أو جاهل لا أكثر
كل من ظن محبا يكبر.
مثل طفل ليس يعصي أهله
يتبع المحبوب في ما يأمر.
ضائع ما بين سخط ورضى
لا يبالي بالذي ينتظر
لا تحاول هديه أو لومه
ذنب من يهديه لا يغتفر
رباعيات متخصصة، في جميع ألوان وأنواع وسياقات الحب، يقدمها الشاعر، صالح الأشمر، كجواد أصيل، لم يبلغ الغلوة بعد. أو كقلب لم يمتلئ بعد بالحب. تعود أن يحتفظ في “قرارة كأسه شيئا لغده”. لأن صالح الأشمر – شاعرا- يعد كل يوم نفسه بالغد الأجمل. بالحب الأجمل. يتدرج في الحب، حتى يجعل منه ثوبا ورديا، كما بدنه المتثاقل، لكل العمر. نسمعه في “يا حب مهلا- 62”:
(يا حب قل لي علام اليوم تنساني؟
تمر قربي وتمضي نحو خلاني.
كأنني لم أكن ذا صبوة قدما
ولم أصنك بأهدابي وأجفاني.
رعيت عهدك والأيام مقبلة
كيما إذا إنصرمت بالود ترعاني.
رفيق عمري ترفق إنني رجل
شماتة الغيد بي والموت سيان.
“حب لكل الفصول”، بعناية صالح الأشمر، جعله يصلح لمختلف الحالات العمرية. وهذة ميزة إبتكرها بعناية خاصة، ليجعل جميع من في قلبه “لوثة حب”، أن يتحفز لتأبط ديوانه: “حب لكل الفصول”، إلى جميع مهرجانات الحب المنظورة وغير المنظورة، التي يحفل بها صاحبها، أو يحتفل بها. يتخذ من فتات عطر شعره هذا، لبنة يتوسدها، حين الفراغ وحين الخلو. يقول من “لارا_70”:
(أسديك حبا مثله لا يبذل/ وكأنه دين علي مؤجل.
قاسمتني ألق الشباب وقد خلت/ أيامه عندي وشمسي تأفل.
ومددت لي حبل الوصال كأنه/ طوق النجاة ولم أكن أتأمل. فإليك يا لارا وفائي كله/ إن الوفاء بمثل لارا يجمل).
تعزز رباعيات صالح الأشمر، روح الإبتكار في الحب، لدى العشاق والمحبين، من جميع الأعمار. كأنه يقدم لهم في يوم فعالياتهم الغرامية، كما في يوم عروضهم الترفيهية، المساهمات الحقيقية، لموسقة الحب بالشعر. ولنوفرة الشعر بالحب. إذ النوفرة والموسقة في الشعر، مثل صياغة نخلة من ماء، أو مثل صياغة نافورة من نبات. وذلك على قاعدة من “التبادلية”، التي تتأصل في صياغة الفنون. يقول في “مي_71”:
(وجه لمي كالنهار صبوح/ من عالم الماضي إلي يلوح.)
ديوان صالح الأشمر: “حب لكل الفصول”، يخصص مجموعة من الرباعيات، تم إختيار موضوعاتها بعناية، لتجمع بين الجوانب التعليمية لفن الحب، لدى اليافعين. ليكتب فيها “حب اليافعين”. فهؤلاء، أحوج ما يكونون، لمن يجني لهم عطر الحب، ويقدمه لهم باقات من الزهر والورد. يقول في “قواعد العشق- 81”:
(الهمس واللمس والتنهيد والقبل/ قواعد العشق حتما ما لها بدل
الكل يعرفها والكل يطلبها/ ولا يماري بها إلا الفتى الخجل
ومن تسامى عن مآربه/ حتى يقال له: أفصح أيا رجل
إن الوصال تديم العشق متعته/ من دونها لم يكن عشق ولا غزل).
إستطاع الشاعر صالح الأشمر، أن يصور لنا إنغماس اليافعين في الحب بكل عفوية. فإذا ما تعثروا، نراه يأخذ بيدهم، ويقيلهم من عثراتهم، ويعيد لهم تعبيد الطريق مرة ثانية، ويدعوهم بكل ثقة، إلى موسم جديد من الحب. إلى طريقة جديدة من فن الحب.
في ديوان الأشمر، يكتشف كل عاشق مغامرته، منذ أيام الطفولة، حتى أيام اليفاعة و الفتوة والشباب والرجولة والشيخوخة. يكتشف كل عاشق مهاراته. يكتشف ما يمتلكه من أساسيات الحب، وحيل المحبين والعشاق. يقدم نفسه لهم، على أساس من الدربة والخبرة والإحتراف، في إدارة موسم الحب، وورشه المتخصصة لكل الأعمار. يقول في “عبور_ ص89”:
(تتمايلين وأنت مقبلة/ نحوي كما يتمايل الغصن.
ولوقع كعبك رنة وصد/ فوق الرصيف كأنه لحن
والنظرة العجلى إلي كما/ عن مقلة للريم إذ ترنو
حتى إذا جاوزتني التفتت/ عيني وقلبي للهوى رهن.)
تضم رباعيات صالح الأشمر، في هذا الديوان الأثير، وليس الأخير، بانوراما ملونة من جميع ألوان وفنون الحب، والتي تبلغ زهاء: (115 رباعية، تقريبا). بالإضافة إلى مقدمة بقلم د. محمد علي شمس الدين، كما أسلفنا القول سابقا. وهي متنوعة في فنون الحب. وكأن الشاعر أراد منها تصوير أحوال العاشق، وتقديم دربة إرتجالية له، لتصاحبه مدى العمر. فهو يقتصر في ديوانه على الأساسيات الضرورية للمحبين والعشاق، حتى يجتازوا أنفاق الحب، تماما مثلما هم يجتازون يوميا أنفاق العمر. يضع أمامهم خبرته. يعلمهم أسرار الحب، من خلال الرباعيات التي تأخذ طابعا تعليميا إبتدائيا ضروريا، قبل الوصول إلى “مصلحة العشق”، حيث “مصلحة تسجيل المركبات”، وخلع أثوابهم الخارجية جانبا “للمعاينة الميكانيكية”. والإحتفاظ فقط، بأثوابهم البدائية، أثواب الحب التي فطروا عليها. تلك التي تحدث عنها “كارل يونغ”، ووضع حدا لعمرها، قدره بخمسة آلاف سنة، على أقل تقدير.
لأول مرة أقرأ لصالح الأشمر. أتعرف على “المطوية” الأولى “folio” من أعماله الشعرية. و قد إستطعت بعد ذلك أن أقول لنفسي: هذا هو “صالح الأشمر”. العاشق الذي يمتع غير المتخصصين، بما تضمنه شعره من نظرات مرهفة، غير مجاملة. تعود جذورها إلى الحيوية التي يتمتع بها صوته الأدبي السهل التناول.
بدت لي رباعياته لأول وهلة مثل “السحر المحمول”، الذي يحول مجالا عشقيا حيويا، إلى عالم بسيط، ولكنه مدهش. حيث الرباعيات المتسلسلة وحيث السرد الشعري المتسلسل. إنها رباعيات متأسسة على حالات الشوق التي كمنت فيه، وكمن لها. إنها “الشعرية الكتابية” البسيطة، التي تقوم على الثقافة المحسوسة، حين تشتبك الكتابة الشعرية مع رغبة الإنسان وتطلعاته وقدراته، بحيث تبدو مساحة الإحالات هائلة.فليست “الكتابية الشعرية” أشياء ميتة كما يعتقد البعض، وإنما تحمل في داخلها طاقة للحياة. وهي تقع في شكلها الكتابي، مثلما تقع في مضمونها الميتافيزيقي.
إن قراءة تجربة حسية حميمة، أهم بكثير مما نلمسه في القصائد العصماء ذات النقول المجردة لعقولنا. إنها من نوع “الخصائص الشمية” للكتب العتيقة في المكتبات. بحيث تسير الرباعية والأجساد معا. وهنا تكمن براعة صديقنا العتيق الشاعر صالح الأشمر.
فالأعمدة الرباعية لدى شاعرنا صالح الأشمر، شبيهة بما لدى الإنسان، حتى لتبدو كأنها توأمه. فترى أعمدتها الرباعية الطويلة، تبرز لتهدم أعمارنا. كأن صالح الأشمر حاول أن يجلد ديوانه “حب لكل الفصول”، بالجلد البشري، بجلودنا. بجلود المحبين. بجلود عشاق الشعر. تماما كما كان يفعل القدماء المهووسون بتحف مكتوباتهم ومطوياتهم السحرية، من فرط الخشية.
فالحب عند صالح الأشمر، لاسيما ما كان منه غير مقصود، قد يهبط إلى أعماق لا عقلانية، ويتخذ هناك صورا متعدد له. ولهذا فنحن نرى في رباعيات، صالح الأشمر، مايمكن أن تكون خطرة للغاية على أجيال المحبين، بقدر ما تكون خيرة عليهم. ففي رباعياته، ما أستطيع أن أسميه “الفجواتية” العميقة. وما يمكن أن أسميه أيضا، “الإستطاعة السلبية”، وهي القدرة على التعايش مع الشكوك وألوان الغموض، والشعور كم هو مهم، ذلك لفهم واقع وضعنا الإنساني، في طواحين الهوى والعشق والحب.
تكمن عبقرية صالح الأشمر في رباعياته، في جعل القارئ، يفكر دون أن يخطر بباله أن يفكر. وانا لا أتحفظ كغيري، على حماسته في ديوانه: “الحب لكل الفصول، والتي تشتغل عبر ربط الأزمات العشقية، حتى ولو بدت كأنها تلهث، لأنني أعتبرها نتيجة حتمية، لتسجيل طويل من الحميميات، ذات الأنفاس العميقة والطويلة والمزمنة، و التي لا تتأكسد مهما إزدحمت في “وعاء الذاتوية”.
صالح الأشمر، يتجاوز الإنسداد التاريخي الأعظم للشعراء العرب. رفض التكرار والإجترار إلى ما لا نهاية، وسعى إلى الرباعيات ليؤسس على الغليان الثقافي الحقيقي، للإنسان البدائي الأول. عاد إلى البدايات. وهو على الرغم من إنغماسه اليومي الحافل بالإصدقاء، يشعر بالوحدة وبالوحشة التي تكتسحه من الداخل إكتساحا. كأنه يقول: أشعر دائما بعطش في قلبي.
رباعيات صالح الأشمر، معقدة تشكيليا. تتداخل فيها الأزمنة بالفضاءات. كماالواقعي بالإستيهامي، والسيري بالمتخيل، حتى لكأنه يوهم لنا بالواقعية. وما هذا التنوع الشعري في العناوين، إلا إنعكاس لنوع من الكتابة المشهدية التي تتطلب متلقيا ذكيا، يساهم في إنتاج فيلم مشهدي حياتي. فلا يكتفي بإستهلاكه. فالحب عند الشاعر “تيمة”، بل “هوية أصلية” للإنسان، وهذا ما سهل عليه عمله: أن يكتب حبا بدائيا لكل الفصول، ينطبع إنطباعا أوليا بالعصرنة، ليبني عليها ذاتويته المغرقة بالصورة الشمسية. ذلك لأنه يعشق “الشمس المفضضة” سينمائيا، لأنه تصلح أن تكون شمس حبه لكل الفصول.