انعكاس – حلقة 8
بقلم : د. لارا ملّاك
(” الجسد ” من وحي رواية “موسم الهجرة إلى الشّمال” للطّيّب صالح )
-×-×-×-×-×-
امرأةٌ \ جسدٌ غائبةٌ حاضرةٌ في هذه الرّواية سكتَتْ دهرًا وستقول الآن:
الشّجر الفارعُ تطاوُلُ الأرض على السّماء، ردحٌ من هواءٍ يشبّ أخضر. قلتُ لكَ كثيرًا إنّ النّخلة أصابتني، ولم تتركْ لي ندبةً أبكيها، ولم تقلْ لي أيّ جرحٍ عليّ أن أرتق. كيف تداري الأرض جراحها إن ختمَتْ قبل ذلك دروبها، وإن جلست فوق القصيدة تخنقها.
هي مسافةٌ من عدمٍ لا تلحظها الخريطةُ الجالسةُ هانئةً على مقعدٍ أو على مكتب. تخيّلْ معي واضعَ الخريطة الأولى منهمكًا في الأرض ينسج مثلها ولا ينسجها، ويبنيها ولا يرى بيته فيها. في النّسخة أنتَ يتيمٌ أو شريدٌ، في الأصل أنتَ النّسخةُ المصقولة.
لو صبرتَ قليلًا، لَما استطالت النّخلةُ هربًا من صوتكَ، ومن بحّة تكرارك، ومن فزعكَ ليلًا. لو تركتَ المنجلَ لكَ كي تصفّف به شعرَكَ، لَما خافت الثّمار على لبابها. لَما انشقّ الطّريق مسرعًا إلى بلادٍ محمومةٍ، وأنتَ لا شيء سوى مسامير ثابتةٍ في مفاصلك، وعزْقٍ خفيفٍ لكلّ ما بان من الأرض وخفيَ منكَ.
انزلْ عن نخلتك الأوروبيّة، واشربْ شايًا معتدلًا لا حرارة فيه كي يذكره الفنجان، أو يكويكَ بين اليدِ واللّسان. اتركْ بعض الخمر للنّساء، وبعض الشّاي للمساء. دع الماءَ يولدُ من الأجساد رطبًا لا حارًّا. من يصدّق أنّكَ صنعتَ كوبَ الشّاي من ذاك النّهر؟ والعشبُ هناك كالعشب هنا لا يغريه أن يركض نحو الغدير. فالهدوء هنا أجمل، والجذور هنا أقوى، والماء في الكوب لا يخجل من هروبه، ولا من عودته. هو هو رجلٌ بجسدٍ أنثويٍّ يعرف كيف يخلق موجةً وكيف يغرِقها.
الماء هنا هدوءٌ بين رجلٍ وامرأة، وبيني أنا السّمراء، وما كان لي لو كنتُ شقراءَ أو بيضاء أو حمراء.
ها أنا أدسّ إصبعي في كوبكَ، أخترع لكَ قاعًا ومرجانًا وإلهًا صغيرًا يدير الماء على نفسه، ويتّهم القمر. ها أنا أغرق في كوبك نفسه، لكنّ القمر هنا أبعد، لأنّنا نحن النّساء أقرب إلى ذواتنا حين نحبّ.
أن تبكي امرأةٌ تحت جسمك، أي أن تتركَ زوايا البؤس، وتنام تحت بؤسٍ بلا زاويةٍ وبلا أدنى قائمة.
_ نحن هنا في القرى، في شرق الكتف الإلهيّة المتآكلة لا حاجة لنا إلى الشّعر، قال قرويٌّ غريب. _ ما حاجة الشّعر إلينا؟ أقول للمدينة، وأواسي ما ظهرَ من شَعر جسمها. لم يواسِ رجلٌ واحدٌ ما برزَ منها، بل ما بطن، أو ما سُلخ عنها رغمًا عن أنوثتها. تركَتْ لنا جِلدها واختبأتْ فيه، وقالت للعالم “هذه أنا”، ولم يصدّقْها، ولم يكلّف نفسه عناء تكذيبها. فلتقُلِ النّساء ما تريد، شرطَ أن تبكي تحت جسمٍ بلا قوائم، وأن تومئ للرّأس السّليطة بأنّها ما زالت تتنفّس لا أكثر.
وحين تستوي على السّرير، وتمشي، وتستحمّ، وتقول أشياءها، يراها تمثالًا من البرونز. هي قطعةٌ أثريّةٌ إذًا، من الهلال الخصيب تبتسم لكَ ساكتةً من عصر ما قبل المسيح، تبتسمُ كأنّ الصّلب لن يأتي. ليست تمثالًا برونزيًّا، هي عصرٌ برونزيٌّ كاملٌ ممتدٌّ من سومر إلى بلاد النّيل. هي عصرٌ أبعد من فخذين، وأطرى من أيّ تحفةٍ وأبقى منها.
_ “هناك مثل هنا، لكنّنا من هنا”، يقول عربيٌّ خانه قومه ولسانه.
_ لسنا من هنا، حين يكون الهُنا جسمًا يُقاس فقط بالخطايا. لستُ من هنا حين أتوهّج كبرونزٍ ينير المكان، ولا مكان له ولا نور. أريد فقط ما كان منّي، وما أتى منّي. أن تكون لي، لا أن تقيس مسافات هجرتك بجِلدي، وبلون الحنطة الّذي أرتديه وأخلعه بين شرقٍ وغرب. لستُ من هنا، والهنا عريُ الفقراء الّذين لا يكتملون أمام العاصفة فتلهو بهم، وعريُ النّساء الغائبات حتّى عن الغياب.
المكان “عدوى الرّحيل” الّتي لا بدّ أن نصطادها، نحن النّساء، من الرّجال، ونحن الثّابتين، من المنتظرين بجانب الطّريق. لا بدّ لنا، نحن نساء الهُنا، من شمالٍ يحوّل من أجلنا الحقولَ إلى محاكم مفتوحةٍ لا إله يعلوها، بل تعلوها غيمةٌ واحدةٌ تعلم مدى القهر في ظلّ أثدائنا، ومع هذا لا تحيد، ولا تمطر، ولا تخاف.
وما هو ملح هذه الأرض؟ هو ما يذوب في كأس عرَقٍ آسيويّ وإفريقيٍّ، ويطفو على وجهي. عبثًا أتبرّج، عبثًا أتزيّن، أو أخفي ما أنا. الملح تحت عينيّ ليس ما اختمر من دموعي، بل هو ملحُكُم المتسلّل ليلًا إلى أصابعي، فيكون أوّل ما أغسل به وجهي كلّ صباح.
وقد تتحرّك المرأة إلى سريرٍ، بحكم العادة وحسب. أن تسير إليه فقط لأنّها حفظت أشكال الحصى فيه. ولأنّ الوسادة أعلى من رأسها، تعود فقط كي تحرّك رقبتها قليلًا، وكي تتحسّس جبينها دون أن يراها أحد.
قارب صيدٍ تغرق فيه، كأنّه مليءٌ وطافٍ معًا. هي لا تقود القارب، ولا ترسو به، ولا تحفظ لونه، ولا تكتب اسمها على أحد جوانبه. تستلقي فقط، تنتظر الأسماكَ كي ترمي لها طعمها، وكي تأكله بسذاجة الشّرقيّين وبدهائهم.
الصّنّارة الآن في حلقها، والهواء ما زال يدخل رئيتها بسلاسة. هي لا تموت، ولا تعيش، ولا تبقى مكانها، بل تُأكَل وجبةً متكرّرة. وعلى الوجبات أن تبتسم دائمًا، كي يليق بها الطّبق، وكي يفرح بها الطّاهي، وكي تُفتح من أجلها المطاعم والأجسام.
هل حقًّا تعلّمْنا نحن النّساء الصّمتَ والصّبرَ من النّهر ومن الشّجر؟ أنا الّتي لم تعرف نهرًا واحدًا صبورًا ولا نهرًا صامتًا، كيف أرسو في جوف التّربة ماءً راكدًا هانئًا بلا أن أُدفن؟ وكيف أنطلق مزغردةً على وجه ساقيةٍ تواجه الشّمس ولا تصيبني السُّمرةُ المخيفة من شرق الأرض؟ وكيف أقنع هذا السّائل الحيّ بأن يتخلّى مرّةً عن الحياة، وأن يغضّ الطّرف قليلًا عنّا، وعن السّنابل الّتي ندّعي عفّتَها عساها تموت، وتأخذ معها الرّغيفَ ومن سلبَه واللّقمةَ ومن ادّعى الموتَ في سبيلها.
هل حقًّا، أنا المرأة .. لي من الشّجرة فأسها؟ ومن السّيف نصله؟ ومنّي قبضةُ الرّوح \ الوهم على الجسد؟
أنا المتنصّلة من الأشجار شرقًا، ومن الأجسام غربًا، أعبر الغابات، ثمّ الصّحارى، ثمّ الغابات من الجنوب إلى الشّمال. ومن الجهات أريد النّزول والصّعود فقط، فإمّا أن أقفز حين تريد قدماي، وإمّا أندثر أرضًا حين أتعب من عينيّ.
ليس هذا طريقًا، وليست هذه أرضًا. الهُنا مَسْخُ المكانِ على خريطةٍ ماتَ واضعُها فوقَها.