دق الرصيف الجرس
تعودنا إرتياد “الوكر”- على حد تعبير صديقنا الروائي، إلياس العطروني- ظهيرة كل يوم. مهما كان الإنشغال، مهما كان البعاد، مهما كنا منغمسين، هنا أو هناك. كان وقت الظهيرة محجوزا سلفا، لصحبة الرصيف. أمام ذلك الوكر الجميل، في منتصف “زاروب الزعيم”، الآخذ نزولا، من أمام مبنى “الألدورادو” في شارع الحمرا، مفرق “Starbuks”. بمحاذاة مقهى “بروباغندا”، وفندق “كاراميل”.
لا شيء هناك يغري بالإصطفاف على تلك المقاعد الخشبية العارية إلا من مسامير المسيح. لا تنقصنا، إلاه معلقا على الخشبة. لا شيء يجذبنا إلى تلك المقاعد الزاهدة، إلا ذلك الطريق المبلط بالأحداق. كنا نرى القادم من أول الزاروب إلى “الوكر”، يدوس الهوينى. لعله يخشى علينا.
كان “إجتماع الظهيرة”، على رصيف الوكر، قداسا يوميا. نجثم كما الطير المتقاعد عن الطرائد، على تلك المقاعد الخشبية. تعودنا الجلوس على مساميرها. وجدنا فيها تمرينا حيويا، على الصبر، على ندوب الخشبة وآلام المسيح فينا. ومرانا يوميا، على النزول عنها. كنا نجد في هذا المران عادة طهرية. ننتظر بعدها “المكافأة البعدية”.
كانت “صحبة الرصيف”، شديدة الإلتصاق بنفوسنا. كنا لا نستطيع الغياب، حتى لا يداخلنا الإكتئاب.
هناك على رصيف الوكر، كانت تسيل نفوسنا على الزاروب المبلط بأحداقنا. على ذلك الزاروب المحتشد بنا. فنهرع للمكوث على المقاعد العارية، خشية التأخر عن قداس منتصف النهار. عن قداس الظهيرة..
كنا نتمرن يوميا، على الصعود إلى الخشبة. على النزول عن الخشبة. وكان بخور الوكر يغشانا.
البارحة في عيد شهداء الصحافة(6/ 5/2022)، فاجأتنا غمامة من العطر، خرجت لتوها من “فوهة الوكر”. رفت علينا، مثل أجنحة اليمام. غشتنا جميعا. لقحتنا بريقة من سحر عطرها. حلمنا جميعا أن نطير وراءها.
كنا جميعا كأطيار شدت على مسامير المقاعد. كلما هممنا بالنهوض، شدتنا مسامير المسيح إلى خشباتنا. وحده، صاحبنا نعيم تلحوق، رق فيه الماء حتى شف عن ملاك يطير. قال: أنا الشهيد. أنا العيد. جسدي أقدمه لكم لحما على وضم، بلا عنوان: “قربان شهداء الصحافة”.
رأيناه ينهض. ثم ينهض. يثاقل. يثاقل. حين النهوض، وحين الهبوط. رأينا في عينيه، مهبط جميع أجنحة اليمام. تمدد على تقاطع التاريخ، صليبا من اللحم. قال لنا مغمض العينين: هذي شهادتي، عن كل شهداء الصحافة. هكذا تكون الشهادة.
ما عرفنا يوما، لشدة ملازمتنا الوكر، ظهيرة كل يوم، أن هناك يماما مسحورا، بلا تاريخ. يملأ منه أعشاشه. يماما منتظرا، منذ أول الدهر، معنى الشهادة.
كنا نسمع تثاؤبه، حين نعتاده. حين يطول جثونا، كما الطير، على خشبات الرصيف.. على مساميرها العالقة بأثوابنا.
كانت الأطيار المسحورة داخل الوكر، ترقع بمحاجرها الكوى. تنتظر من يشف لها عن ملاك، يريد أن يؤوب على عجل، بعدما جففه الإنتظار الطويل، شهيدا حين إمتحان الشهادة.
وجدنا، في لحظة. في برهة. في ثواني الإنتظار، كيف دلق الوكر بكل أطيار اليمام، على “نعيم”. رأينا بأم أعيننا. كيف غط عليه الحمام. كيف طار فوقه الحمام، مثل الغمام.
كان نعيم، يشف عن ماءة مسحورة بالشهادة. كان يرق. يرق. صار أنبوبة من رحيق. ثم لم نلبث، أن رأيناه كومضة عين، علامة فارقة في الطريق. صليبا من اللحم. ممددا مثل جسد المسيح.
شهيد البرهة المارقة، كان نعيم تلحوق، حين ضم إلى صدره الوكر. صحبه. اليمام. الحمام. الرصيف، صحبة الزاروب، خشب المقاعد، مساميرها. قداس الظهيرة اليومي، وكل هذا البلاط العنيد.
رصيف بطول يوم. بطول عمر. بطول صحبة. بطول رفاق الطريق. بطول يوم القيامة: عثر نعيم- قيم الشهداء كلهم، لا شهداء الصحافة- في بنيات الطريق على لقيا: “دعوة مفضضة بأوراق العريش”. دعوة مطرزة بالشهادة. دعوة محفوفة بالعمر المديد.
عرفنا أخيرا، كيف دق الرصيف الجرس: كيف قرع لناموسه، جرس الطريق. كيف أماته في يوم شهداء الصحافة، ثم أحياه: ناموسا من جديد.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين
رصيف الورك تدق أجراسه في مسمع د. قصي و رفاق مجلسه،كي تقلب صفحة من صفحات الحياة الغنية،حياة الانسان”الانسان” . صفحة هي درس لمن”يقرا” الحياة،لمن يريد-فعلا-ان يتعلم الحياة بعيدا عن انفعالات العصبيات، لكن في صميم التفاعل مع الحياة و مع الذات التي تعيش الحياة في نقاءها و فقط على رصيف”الحياة”،لا على أرصفة أخرى.
نعرف أن المقيمين على هذا الرصيف ، و العابرين عليه قلة،إلا أنهم “هم” من يمثل الحياة و من يعبر عنها.
فتحية لارصفة تتسع لنا جميعا.
و تحية لمن يعلموننا أن النقاء و الصفاء هناك: على أرصفة الحياة الحقيقية.