أمواج سمر ( الجزء الخامس)
الوهم الصادق
عنوان يستحق الوقوف عنده، في حياة لم أعشها، زمن المراهقة.
إنها العمر /النغم التائه في كتابات صلاح لبكي.
كيف تصدق الأوهام؟
كيف قضيت ليالي بيضاء، لم أكن فيها أنام؟
كنت في الخامسة عشرة من العمر. والعمر لا يقاس عندي بالسنوات. كانت الحياة عندي دقائق وثوانٍ لم أستطع إحصاء دقاتها، أو وريقاتها.
وأستعيد الآن، بعد اثنتي عشرة سنة، تفاصيل ما جرى، آنذاك، بقدر ما تسعفني الذاكرة والعبارة.
هي المغامرة المقامرة أن أكشف قلبي من جديد، أن أعري حواسي أمام صفحات القارئ من دون أن أتهم بالنرجسية، أو الكذب.
قصتي، بل مغامرتي، التي أعود إليها، عبر الذكريات، صورة طبق الأصل عن وهم كان اسمه، ذات حياة، سمر الخوري.
فمن هي سمر؟ وكيف كان إبحارها في وهمها الصادق، في لجج حياة عانقت المستحيل، وكتاب الرحيل النحيل، بلا ندم، أو تردد؟
تعود بي الذاكرة الهزيلة الانتقائية إلى ٨/٨/ ٢٠٠٨. لا أدري لماذا هذا التاريخ؟ لعله كان مميزا بأرقامه المتشابهة كأيام حياتي، المنكسرة في اتجاه انحدار عاطفي واجتماعي ونفسي، لم أعرف مخاطره الحقيقية، آنذاك.
وكان ذلك التاريخ، بما رافقه من أمواج وتموجات ارتدادية لاحقة، بداية الزلزال الذي غير مسار حياتي نحو مجرات مختلفة تماما، عن خط الحياة التقليدي الظاهر في كف يدي.
في ذلك اليوم، ولن أصفه بالمشؤوم، كما درجت العادة،
تعرفت إلى صديق جديد، أنهى مرحلة البراءة، في مراهقتي التي لم تكن طويلة كما كنت أرجو وأشتهي.
إنه الحشيش.
ونقطة على سطر حياتي لم تكن لصالحي، هذه المرة.
برفقة هذا الصديق اللدود، لم أكن الأميرة التي كنتها، من قبل، في طفولتي، وقسم بسيط من المراهقة.
كيف تعرفت إلى هذا الصديق؟
كيف أدخلت ذلك الدب، بل الثعلب، إلى كرمي، فراح يلتهم العناقيد، وهي لا تزال حصرما، في حلب؟ هذا ما لا أستطيع البوح به، ليس لأنني لا أملك الجرأة، بل لأني لا أريد أن تنفجر قنبلتي الموقوتة بساعة الذكريات المتمردة على عناكب الزمن.
سنة كاملة دامت العلاقة بيننا. من رأس السنة إلى عيد الميلاد. من كانون الشتاء إلى كانون النار التي لا ينطفئ لهيبها، في القلب والضمير. نار آكلة اجتاحت كياني التائه على دخان السم في الدسم.
جواد طائر يلتهم الخلايا، في مسافات الشوق، ومساحات الإذلال.
أفاع تنساب تحت قش الوهم المجنون، عشقا لما وراء المكان، في زمان طلل، بلا عنوان.
أخشاب تطفو على لجج النار، تحترق ولا تحترق. تبكي وتضحك لا حزنا ولا فرحا. وامحت السطور، في دفاتر الناي الجريح.
خطوط نسخية تتهاوى، بين أدوات تعجب واستفهام.
إلى أن ولد الحب، في مذود القلب. وكان التجسد المنتظر، منذ ثمانية آلاف وستمائة ساعة بالتمام. ولن أحسبها بالدقائق لأن دقائق الوهم تساوي الدهور، وتوغل في غياهب الأبدية.
أتكون تلك ولادتي الثانية، من رحم الموت؟
هل استطعت حقا الإفلات من براثن ذلك الوهم البركان؟
لم يكن بركاني سرابا . كان حقيقتي الوحيدة الصادقة. كنت صادقة في أسفل دركات انسحاقي. وكان صديقي المزعوم، الحشيش، إكسير الصدق الذي أفقدني جميع أصدقائي.
واليوم، لدي خمسة آلاف صديق وصديقة، على كتاب الأقنعة. ولكنني لا أزال وحيدة، تائهة خلف جدار حقيقتي المخادعة.
وجهي لم يعد وجهي.
مراياي انكسرت.
خطاياي انحسرت.
بقيت خطيئة وحيدة لم أستطع التكفير عنها، وهي أنني لم أزل على قيد الحياة.
( الكاتبة : سمر يوسف الخوري)
خبايا مفاهيم!!
هوذا نصّ، جزءٌ من حكايا أمواج سمر، تعنونَ “الوهم الصادق”، ما وصلني من سيرةٍ ذاتيّة لسمر يوسف الخوري. في منظوري، النصّ هذا، ما أمامي إلّاه، مؤشّراته إلى دلالاتٍ فتحتني على خبايا كثيرٍ من نفْس الكاتبة ونفَسها، لا في الكتابةِ، بل منها قدُمًا إلى المفاهيم. وبعدُ،
مضمون السيرة اعترافاتٌ بامتياز. الراويةُ شخصيّةُ السيرةِ في كلّها. هي الشخصيّة الواقعيّةُ وحدها في السياق. الأخرى وهميّةٌ، على صدقِ فعلها ومفعولها، أسمتها الصديق، تلوّنت صفاته بالدبّ والثعلب، يغزو لدودًا كرمَ عمرها الطريّ، ملتهمًا العناقيدَ حصرمًا ما أينعتْ من مراهقةٍ “لم تكن طويلة كما كنتُ أرجو”. وتناهى تتابعُ الشخصيّات إلى أصدقاءَ افتراضيّين تعدّوا الآلاف في العالم الرقميّ على “كتاب الأقنعة”، ما أكسبهم ميزةَ السراب كذبًا، وإخفاءَ صدق.
شخصيّةٌ وحيدة في واقعيّتها، واقعُ الأنا فيها فالشٌ على الحبكة النصيّة، الآخذة في النمط السرديّ كلّ توقيع. من داخل النصّ أدارت الكاتبةُ نفسَها البطلة، راويةً تفاعلاتِ شخصيّاتها الأخرى، كأن في استعارتها ارتقوا إلى مصاف الناس.
في المضمون، تسرد الكاتبة قصّتها مع الانحراف، بحرفيّةٍ أدبيّة حاذقة. صديقٌ جديد دخل حياتَها يقطع براءتها الجميلة، في حين يتوقّع القارئ فارسَ أحلام، تأتيه بضيفٍ ثقيل، أرداها. تحاشت البطلةُ الراوية ذكر كيفيّة ولوج الصديق مسيرةَ عمرها الطاهر، بخّ سمومه في مسامِ تفاصيلها، تقول: “لأني لا أريد أن تنفجر قنبلتي الموقوتة بساعة الذكريات المتمردة على عناكب الزمن”. لتنهي بإشكاليّة فلسفيّة تطرح تساؤلاً وجوديًّا يفتح على كلّ نقاشٍ واحتمالات: “بقيت خطيئة وحيدة لم أستطع التكفير عنها، وهي أنّني لم أزل على قيد الحياة”. هل بقاؤها في الحياة منوطٌ بمسؤوليّتها، ليقبل القارئُ اعتبارَه خطيئتَها، ليطرح على خلفيّته مسألةَ تكفيرها عنها؟!
في هذا المجال، فتحت الكاتبة نصّها على أفقٍ من فكر، لا يطالُه إلاّ ملهمون… ما يصنّفها في قامتهم قيمةً وقيَمًا…
يبقى سؤالٌ يفرضُ طرحه: إلامَ صار هذا “الصديق اللدود”؟ وإن تخلّصت منه، هل قدّم لها أصدقاؤها الافتراضيّون بديلاً؟ أم هو البقاء على قيد الحياة خلاصُها المفترض على ما هزّ في ضميرها الإشكاليّةَ أعلاه، فتجهر في مكان: “لا أزال وحيدة، تائهة خلف جدار حقيقتي المخادعة”.
سمر الخوري، تقدّمين هنا طبقًا ليس عاديًّا، يفترضُ قارئًا يحترف مروراتٍ دقيقة بين هاوياتٍ وجلاميد، علّه يبلغ فكرَكِ بلا أمان، فتمسكين به منطلقةً معه إلى برٍّ تنشدينه، فتستقرّان على هوادةٍ لا تعدُ إلاّ بانطلاقاتٍ جديدة!!!
قراءة الصديق الأديب الدكتور عماد يونس فغالي غاصت في العمق، وألقت أنواراً ساطعة على مكنونات شئتها أن تبقى مبهمة، فلم أوفّق, وصحّ فيّ المثل القائل: مَن غربل الناس نخلوه.
صديقي، أنوارك اخترقت بصيرتي والإحساس. عرّيتني، في صميم اعترافاتي. سجنتني في قفص واحد مع صديقي اللدود. رميت بي في قفار ليس لها حدود. وطلبت مني أن أرفع الحصانة عن أبطال قصتي، تمهيداً لإصدار حكمك العادل بحق الجميع.
كن على ثقة أيّها الخصم والحكم، أني لم أكن بطلة الاعترافات. فالبطل الوحيد فيها هو القدر يسير بنا إلى حيث لا نشاء، والسعيد السعيد منا من رمى بنفسه في الأمواج، وأبحر مع التيار، إلى الأعماق، حيث المحار لا الزبد.
وضعتني أيها الصديق فغالي الغالي أمام أبطال قصتي الافتراضيين، وقلت إني وحيدة، كنت الحقيقة، فتذكّرت قصة الفيلسوف والمرآة.
مرآتي ، أيها الصديق، لم أرَ فيها يوماً صورتي، بل هواماتي وأوهامي. لهذا أصبحت خائفة من انكسار الأصل، في المرآة، فلا يبقى من وجودي السرابيّ، إلا بقايا من رماد، لا صديق يقاربها، ولا فينيق.
عماد يونس فغالي، أيها الخيميائيّ البارع، شكراً لك لأنك حاولت تحريري من ذاتي، من غيوم خُلّب في ذكرياتي، وأعدت الحياة إلى جنّيّاتي، بين أمس هوى، وهوى الغد الآتي.
سمر الخوري