.. نشرت الكاتبة والشاعرة دارين حوماني في موقع ” ضفة ثالثة / العربية نت ” قراءة نقدية لكتاب ” أرض الزئبق ” للكاتب والشاعر الشيخ نعيم تلحوق الصادر حديثا عن دار فواصل في بيروت وجاء فيها :
منذ كتابه الأول “قيامة العدم” ( 1986 ) وعلى مدى عشرة دواوين توظف الفلسفة يحاول نعيم تلحوق استكشاف المعنى من الوجود والكون اللامتناهي، وها هو يكمل بحثه في معنى هذا العالم وسبب وجوده و”اللـه” في كتابه “أرض الزئبق” (دار فواصل للنشر، 2022)، وكأن هذا البحث هو فعل مقاومة للوهم، وكأننا أمام رحّالة يمتلك عدّة الفلسفة والشعر والرواية ويمضي وحيدًا بين الماضي البعيد والمستقبل المظلم مقيمًا في ذاكرة مشحونة باحتدامات فكرية فتتكشّف سرديّته عن ذلك النزوع إلى الحكمة والتأمل والتكثيف العميق، متسائلًا على لسان صديقه الفنان التشكيلي: “عش العيش لا الحياة، لماذا تتعب نفسك في البحث عن معناك؟
عبر سبعة عشر فصلًا معنونًا بـ”المعنى” يحاول تلحوق إثبات “نظرية خائفة”، “ففي نهاية الأمر أنت كائن خائف.. ولا يمكن أن يتكلم الإنسان الذي فينا بجرأة وحرية دون خوف من الأساطير والكتب الدينية”.
سنكون أمام “سبيل المعنى، بلاغة المعنى، شجرة المعنى، انحناء المعنى، آفة المعنى، ثبات المعنى، سقوط المعنى…” وغيرها من العناوين التي تُدخلنا في بحر يشدّنا نحو الغرق في متاهات فكرية شديدة العمق من نافذة التقوى عند الحلاج إلى نافذة العقل عند ابن رشد إلى نافذة اللغة عند الجاحظ إلى نافذة الوجود والعدم عند هايدغر ونيتشه إلى نافذة المفاضلة بين العقل والنفس والكلمة عند أبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري إلى نافذة الحكمة عند كونفوشيوس وبوذا وأفلاطون إلى ساحة الوعي عند “محمد وعيسى واللـه نفسه”، وقبل كل ذلك نافذة البلاغة التي فتحها أبوه في قلبه منذ كان فتى في الثانية عشرة من عمره. يبحث تلحوق عن هوية له بين كتب الفلاسفة، يعود لعلي بن أبي طالب وابن عربي وسقراط ونيتشه والجرجاني وآخرين دون أن يجد الأجوبة لتساؤلاته مع رغبة في تحطيم مسارات الظلمة والخروج من نقطة الصفر التي يتحسّسها كلما ظن أنه قطع مسافة ليجد نفسه في مكانه “واقفًا على رأسه” بعد قراءات فلسفية متعمقة، ليسمّي تلحوق وجوده بعد هذه الشحنات المضيئة مجتمعة جرمًا إلهيًا لا معنى له: “أدركت أن الوجود عبثي لا معنى له، وأن ساحة الصراع هي أن تستدل على جرمك الأساسي في نهاية الأمر، لماذا أنا؟ ما الغاية من وجودنا. ما المعنى من عبثيتنا؟ طالما اللغة لم تجارِ المعنى.. ما هو المعنى من المعنى إذًا؟”.
ينحت تلحوق في المعنى وهو يجمع بين العبارة الشعرية والتفكير الوجودي، يشدّنا إلى فكرة “اللـه الأنثى” فنحن “كائنات حيضية”، و”الحضور أنثى المعنى والزمن تابوت”، مطلقًا عددًا من التساؤلات الوجودية “هل شارك الله في جريمة لا ذنب لآدم فيها؟ هل الله، الأنثى، أغوى حاله فسمّى ذلك نفسًا خطاءة ليجعل من الفضاء مدى لخياله وحقلًا لتجاربه التي لم يستطع آدمي تخيّلها حتى اللحظة؟ هل انفجر أو انفلق من ضباب وأنزيمات عدمية احتكت كثافتها ببعضها فجاء الطيف، الذي هو، فكان هو ما هو؟ هل الله نفسه حادث خطأ؟.. لا أعرف ما الحكمة من وجود الله، فليدعنا وشأننا ونحن قادرون على إقامة المعنى”.. ليأتيه صوت آخر: “الزمن هو الله، وأنت مرهون بالخطيئة”.. وعلى نفس الخط التغريبي تجاه الله والوجود يكمل تلحوق اعترافات اللاوعي من دون أقنعة ودون سقوف ودون أن يتكسّر الإيقاع، “أليس حريًا بالذي جاء بالنهار والليل أن يفضي لمخلوقاته هو وشركاؤه في اللعبة، بأن يزيل عنهم تعب البحث عن لغات عديدة وكثيرة لاكتشافه والوصول إليه؟”
إلا أن منطقة اللاوعي ليست وحدها من يتحكّم بسردية صاحب “شهوة القيامة”، ثمة اعترافات أخرى هي اختزال لسيرة حياة مشبعة بالخسارات والهزائم والصفعات منذ الصفعة الأولى التي وجّهتها يد أبيه له وهو فتيّ، وهو حتى الآن لم يستعد لما بعد تلك الصفعة التي أصبحت تذكارًا سنويًا، “كنت أصغر من الخوف وأكبر من المحو”.. يتذكر تلحوق صرخة أمه: “ألم أقل لك مرارًا وتكرارًا لا تحلم، ممنوع عليك الحلم”؛ يتذكر أيضًا كيف كان والده يصحبه معه إلى جلسات المفكرين والأدباء منذ كان فتيًّا “ليستثمر الأب بلاغته في ابنه”، ولا يتردّد في المكاشفة عن تفاصيل فتيّة لابن الثالثة عشرة من عمره عام 1975 في “الملجأ” حيث كان اللبنانيون يركنون من القصف إبان الحرب الأهلية اللبنانية.
استرجاع حياته التي استنطق فيها نعيم تلحوق وعيه لا تتم بدون أنطون سعادة، مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي نفذّت السلطات اللبنانية حكم الإعدام فيه صبيحة الثامن من تموز/ يوليو من عام 1949 لتمرّده على الطائفية وسعيه لتغيير شكل الحكم. ونعيم تلحوق لم يشعر أن وطنًا يولد في رأسه إلا لما قرأ أنطون سعادة. هو واحد من “المخلوقات الفضائية” الذين يستعيدهم تلحوق في سرديّته بأسى على بلد لم يتقبّل رجلًا يسعى لفصل الدين المتناحر عن دولة البؤس. يحكي تلحوق كيف جاء سعادة، “الذي لم يشأ أن يكون رجل سياسة”، من المهجر ليؤسّس “حزبًا علمانيًا مدنيًا إصلاحيًا” لكن صديقه رشيد سليم الخوري نصحه بأن يعود إلى المهجر: “يا أنطون أنت ذاهب لتدب نفسك في جهنم، المنطقة ليست شعبًا، إنها شعوب وقبائل متناحرة ولا تفيد نظريتك فصل الدين عن الدولة، ولن تتمكن من الوقوف في وجه سرطانين: إسرائيل والقبائل العربية”. يصف تلحوق سعادة بالرجل الإصلاحي الذي حاول أن يصلح أمته وبلاده خارج نظريتي “الحتمية التاريخية” التي نادى بها النظام الشيوعي و”الحتمية الجغرافية” التي نادى بها النظام الرأسمالي، والذي رفض أن يكون رجل سياسة مستعيدًا عرض رئيس الوزارء اللبناني آنذاك رياض الصلح له “قبل نحره” في اجتماع سريّ بأن يعيد حساباته كمؤسس لحزب علماني مدني إصلاحي يحارب آفتين “إسرائيل والطائفية”، “يقول الصلح بالحرف لسعادة: تعال يا أنطون نحكم لبنان سوية، أنا زعيم المسلمين وأنت زعيم المسيحيين، أعدك أن أقلب المعادلة من السني الماروني إلى السني الأرثوذكسي ونحكم البلد معًا.. هذا ما قاله الفرنسيون والإنكليز آنذاك للصلح.. ولم نزل حتى اللحظة ندفع جريمة ما رفضه سعادة من رياض الصلح!”. ومتأسفًا على لبنان وعلى “المجنون” الذي لم يخف من ساعة الإعدام، والذي أصبح وجهه أوضح وأعمق وأكثر رسوخًا بعد الموت، يقول تلحوق: “لو قبل المجنون أن يترشح للنيابة لكان الزعيم السياسي المسيحي الأول في لبنان، لكنه أراد أن يكون قائدًا لأمة لا ترضى الهوان والذل والتبعية.. لهذا يحاربه العقلاء.. واليوم نحن العقلاء الأصحاء أموات غائبون، وسعادة المجنون هو الحي الحقيقي الذي لا يموت ولا يغيب”
وأنطون سعادة ليس “المخلوق الفضائي” الوحيد، ففيروز أيضًا مخلوقة فضائية.. وخليل حاوي، الشاعر المثقف الشجاع الذي عرف متى يخسر وكيف.. وجوزيف حرب، الشاعر الذي أفشى سره في “محبرته”
عن عالم مصاب بالدينونة وغادر قبل أن يهيّئ فراشه للنوم.. وخالد علوان، المناضل والمقاوم للإسرائيلي في قلب بيروت.. وتشالز هانل الكاتب في علم التأثير، وموريس عواد، الشاعر الذي يقول: “ليس البطل من يعرف كيف يربح، القائد الكبير هو الذي يعرف كيف ومتى يخسر، لهذا كان هنيبعل وفخر الدين وأنطون سعادة.. هؤلاء عرفوا كيف يخسرون”. يعدّ نعيم تلحوق مخلوقاته الفضائية دون أن ينسى ذلك الصوت الفضائي الذي يأتيه من العدم يتحاوران عن اللـه والوجود ويقول له: “الوجود هو الحب، وبغيره لا نور في هذا العالم”.
ويتابع تلحوق رصف متراسه الاستعادي لنكون أمام نقد فكري اجتماعي سياسي للوطن وللعالم العربي، حيث “مثقفو الغابة” وحيث يدّعي الجميع الألوهية قبل أن يستحق إنسانيته. وخارجًا بفكره من كل ما يحيط به مع رغبة في أن يكون خارج الأمكنة وخارج هذا العالم، يشكّل تلحوق صورة بانورامية عن البلاد التي تحكمها نخبة من الموتى وعن نفسه في وسطها، يفككها برثاء حزين للوطن بدءًا من صوت أبيه الذي يخبره عن اللصوص الذين لا تراهم في الليل بل وراء المكاتب الفخمة في وضح النهار وصولًا إلى القصور الذهني في المجتمعات العربية ولا أحد يقرأ، و”الناس كثيرون والإنسان قليل”، وحيث هوت تجربته مع الإنسان الجديد عند أعتاب الفعل، والوطن الذي خاطر والده لأجله كثيرًا فقامر بأحلام الشهداء، والصديق الألماني الذي يسأل عن القدس ولبنان “النقطة الأوفر حظًا من تداعيات قضية فلسطين” فيما العرب غائبون، فلا يجد إلا صمت تلحوق الساخر جوابًا له.. والرواية العربية المحكومة بقوالب فكرية كما الشعوب العربية، “وجدتُ نفسي في دائرة مغلقة وشديدة الإحكام، ولا مفر لي أبدًا من الخروج، إنه النفي لا بل نفي النفي، لا بل نفي نفي نفي”.. وينتهي متسائلًا “هل لأني أتكلم العربية أنا مهزوم؟”
وتحضر زوجة تلحوق في الكتاب وهي التي تغضب من كتاباته: “أَسْهَل، أَسْهَل.. خفّف عن الآخرين عبء التفكير بما تكتب!”، وهي الفنانة الهادئة التي علّمته الاعتدال والصمت لغة كي يصغي إلى نفسه أولًا قبل أن يصغي إليه الآخرون. ويستعيد صاحب “لأن جسدها” تجارب الحب: لمار، نورا، دعد، ميرا، منار، مريم، ولؤى “بداية الجسم آخرة الجسد” التي يبحث عنها تلحوق، تطل في المنطقة التخييلية في كل فصول السردية بأكثر العبارات شعرية وكأنها تتنفس من داخل جسد تلحوق ولكأنها أيضًا تتهيأ لإخراجه من العالم الأرضي حيث يقيم، تقول له: “ما جدوى إنسانيتك؟” ويقول لها: “تعالي يا لؤى نجمع كل تعبنا لنغادر هذه الأرض ونهرب من كل هذا العبث اللغوي المنحلّ، لقد حيّرني ربي بما فعل، يبدو أننا خلقنا كي لا نفهم شيئًا أبدًا..”.
ومع كل هذا الاسترجاع لمناطق الوعي واللاوعي تتكثّف الصور الشعرية والبصرية التي نتصفحها كأننا نتصفح جدارية من الألوان الشفافة التي تنفذ إلينا كظلال لأضواء ثابتة لا تعبر إلى خارجنا، يوظفها تلحوق ليُسقط رؤيته وأساه من الوجود، “أنت تثّوّر النص كي يتمرّد، العالم كذبة مشتهاة، الحقيقة هي داخلك.. التمرّد شيء آخر غير الثورة.. لم تكن رجفتي من الخوف، بل من الحنين إلى الماضي.. من الصعب جدًا أن تقع بين شيئين، كأن الوقوع في هوة منبسطة مترامية الأطراف هو أجمل بكثير من الوقوع بين لا ونعم.. لقد تعرفت على زمني بغير وقتي..”.. وتطل بيروت بوجعها وقلقها يدفعها تلحوق لأن تتشبث بهامش للبقاء: “”بيرتا” تسائل علي بن أبي طالب عن الخبز والجوع، وما إذا كانا صوفيين، أو أن تشي غيفارا مسح الرؤية بشغف مادي فأرسى على مقولة: أيها الساجدون على عتبات الجوع ثوروا فإن الخبز لا يأتي بالركوع..”.
يضع نعيم تلحوق في كتابه هذا خطوطًا من خطاب فكري- وجودي، شعري- ثقافي، سياسي- اجتماعي. إنها يوميات ذهنية نقدية تشكّل في دواخلنا طبقات من الوعي الشقي ومن الشكوكية، كأننا أمام جدارية من المرايا المتعدّدة لواقعنا تنتبذ لها مكانًا مطلًا على العالم الذي قد تجد صعوبة في النفاذ والعودة إليه لما لها من خصوصية في التعبير وجنوح نحو التفرّد، مشبعة بالتساؤلات الوجودية التي تذكّرنا بإميل سيوران وهو يقول: “أفرطُ في استخدام كلمة اللـه، أفعل ذلك كلما بلغتُ حدًا أقصى واحتجتُ إلى لفظ يشير إلى ما يأتي بعد”.