خاص لموقع ” ميزان الزمان ” :
أقام المنتدى العربي / الأوروبي في باريس أمسية تكريمية للشاعر اللبناني شوقي بزيع بالتعاون والتنسيق مع الملتقى الثقافي التونسي أدارتها الكاتبة والأديبة دوريس علَم خوري .
افتتح المنصة رئيس المنتدى المخرج حميد عقبي الذي رحب بالشاعر شوقي بزيع وبالمشاركين في احياء الندوة وهم :
الشاعر القس جوزيف ايليا، د. دورين سعد، د. منير فوزي، د. خليل شكري هياص، د. عبدالسلام الشاذلي، د.حمد حاجي، د. عاطف الدرابسة، د. درية فرحات، الاستاذ يوسف الرقة، د. ميديا شيخة ود. شفيع بالزين رئيس الملتقى الثقافي العربي في تونس ورئيس المنتدى العربي الأوروبي في باريس المخرج حميد عقبي.
وبعد كلمة القاها الدكتور شفيع بالزين في تكريم الشاعر شوقي بزيع استلمت الشاعرة دوريس علَم خوري إدارة الجلسة .
كلمة الشاعرة دوريس علَم خوري في افتتاح الندوة :
تحية مسائية , أسعد الله أوقاتكم
بكل الحب والخير
يقولون إنَّ الشاعر هو ابن بيئتهِ وإنَّ من يسعى إلى العالمية ، عليه أن ينطلق من بيتئه الأولى .
وأنا مع هذه المقولة حيث أن الطفولة البريئة ورائحة التراب والأحاسيسَ الخام ، لم يلوثها غبارُ السنين ولا ترهات الوافدين إلى مسرح الحياة.
في البيت الأول اكتشف الشاعر شوقي بزيع حواسه الخمس ووظفها في الشعر واستقاها من زقزقات العصافير وخرير نبع العزية.
عيون الشاعر قد حملقت في زرقة السماء وفي لون الأزهارالبكر ، والعشب البري ،
يُدغدغُ أنفُكَ نسيمُ البحر الزاحف من شطآن صور البحرية والأمواج المتلاطمة.
فوق الهضاب الصخرية المُتكورةِ التي نحتتها يد الباري في أرض زبقين.
وقد حمل النسيمُ معه بشائرَ عودة مسافرٍ أو صفارةَ إنذار لغواصة قراصنةِ غزاة تنبئ بغارة جوية أو بحرية
في البيت الأول تذوقتَ الحليبَ من ثديي أمٍ أنهكتها الحياةُ ، من صُلافةِ عيشَ قروي فشجعتك للنزوح إلى المدينة
وهذه الأخيرةُ مسدتْ شعركَ ودجنتْ الفاظَك في قراءة وكتابة القصيدة فدلَكْتَ قيافةَ ربطة عنقٍ أنيقة راحت تتمايل حول مائدة الشِعر والجمال .
في بيتك الأول ، داعبتَ أوراقَ التبغِ وطاردتَ أسرابَ النحلِ والفراشات فوق ثغرِ أٌقاحي زهر التبغ.
وكانت طفولتكَ المتميزة بين أحضانِ الطبيعة البكر هي الرافدُ الأساسي لقصيدتكَ.
حدثنا يا شوقي عن هذه المحطات المتنوعة من حياتك لعل الذاكرة تسعفُك بكل حمولاتها المُثقلة بلحظات الوجع والفرح والشغف والحب المقترن بقصتك مع مريم ابنة الضيعة .
وقد جئتنا الان مُحملاً برائحة تراب الجنوب (..) جئتنا من وطنٍ مأزومٍ يُغمسُ أباءهُ دموعَهم بلقمة العيشٍ حفاظاً لكرامتهم .
فمن بيبلوس وقدموس إنطلق الحرفُ وكانت وأول أبجدية .
جئتَ كي تُجلي تلك العتمةَ ومعك قنديلُ قدموسَ بكل حمولته اللغويةِ.
ها نحن نفتحُ لك الأبوابَ الموصدة َعلى مصراعيها ونقولُ ، حللتَ أهلاً ووطئتَ سهلاً.
في المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح إذ يُسعدنا ويشرفُنا أن تحلَ علينا بطلتكَ البهيةِ
فهذا المساءُ ليس كباقي المساءات حيث الدهشةُ والمتوقعُ واللامتوقع ، فلتُتحفنا بحضورك الثري الذي يضيءُ لنا عتمةَ المساءات.
.. ضيفنا العزيز تفضل بإلقاءِ التحيةِ على الضيوف الكرام الذين ينتظرون قدومَك بشغف وأملٍ بأن تفيض َعلينا مما لديك من الجمال الأدبي وعبير اللغة فيبتهج القلب ويستأنسُ السمعَ أهلا بك .
شوقي بزيع شاعرٌ لبناني وُلدَ في الجنوب اللبناني في بلدة زبقين المجاورةِ لمدينة صور عام 1951
لديه عشراتُ المؤلفاتِ في الشعر والنثر، كما له العديد من المقالات والدراسات النقدية والأدبية والثقافية
حاز على جائزة عكاظ في العام 2010
وعلى وسام جنبلاط في العام 2010
وعلى جائزة العويس الثقافية في العام 2015
وعلى جائزة فلسطين في العام 2017
وعلى جائزة الشرف ضمن جائزة محمود درويش للثقافة والإبداع في العام 2020
قصيدة من القس جوزيف إليّا مهداة الى الشاعر شوقي بزيع :
نريد ثورة شِعرٍ
“شوقي” أحيّيكَ حُرّا
تفيضُ كالنّهرِ شِعرا
تبني عوالمَ حُسْنٍ
فيها نحبُّ الدّهرا
وترسمُ الحرفَ رسمًا
بريشةٍ لا تهرا
فيصبحُ القولُ لحنًا
يُتلى لدنيا أخرى
دنيا نفتّشُ عنها
ليلًا وصبحًا وظُهرا
إنّا سئمنا عصورًا
قد أطعمتْنا مُرّا
ونشتهي أكلَ حلوى
وأنْ نُجرَّعَ خمرا
فلمْ نزلْ في ضبابٍ
فيهِ أضعنا الفجرا
ولمْ تزلْ كلماتٌ
لنا تلوِّثُ عمرا
تجرُّنا نحو ماضٍ
نحياهُ مثْلَ الأسرى
نجترُّ لفظًا عتيقًا
ولا نجاري العصرا
تشيخُ أذهانُنا لا
تنمو وليست تبرا
نريدُ ثورةَ شِعرٍ
كالموجِ تهدرُ هدرا
عنهُ تزيلُ غبارًا
وتكسرُ القبْحَ كسرا
كفاهُ طعنًا ورجمًا
كفاهُ ذلًّا وقهرا
نريدُهُ نغمًا لا
يفنى ويأبى القبرا
وزهرةً في حقولٍ
نشمُّ منها عطرا
وغيمةً في سماءٍ
لنا تخصِّبُ صحرا
نريدُهُ صرخةً في
وجهِ الطّغاةِ وبحرا
وسيفَ حقٌّ على مَنْ
بسرْقةِ الغيرِ أثرى
وَمَنْ بنى كهفَ جهلٍ
وراحَ يسحقُ فكْرا
نريدُهُ للّذي قد
أُذيقَ صمتًا ثغرا
“شوقي” أحيّيكَ حُرّا
بكلِّ ما نهوى ثرّا
فهاتِ شِعرًا غنيَّا
فيهِ نلاشي فقرا
( القس جوزيف إيليّا )
المداخلات و كلمة الشاعر شوقي بزيع :
بعد ذلك, تحدث الشاعر شوقي بزيع عن علاقته مع الشعر وكيف عرِف المرأة في طفولته بين سواد الرداء وبياض الوجه وكيف كانت علاقته مع الحب الأول ” مريم ” ثم أجاب عن الأسئلة التي حملها الملتقى الثقافي التوتسي من أصدقاء الملتقى إلى الشاعر , وبعد ذلك بدأت مداخلات النقاد الذين قدموا دراسات وقراءات في شعر شوقي بزيع , لم نستطع نسخها عن فيديو البث المباشر احتراما لرغبة بعض المشاركين بعدم نشرها لان بعضهم أراد أن يعيد قراءتها في مؤتمرات مقبلة وبعضهم يريد نشرها في كتاب له.. لكن الدكتورة دورين نصر زودتنا بمداخلتها القيّمة كاملة بعد أن اختصرتها كثيرا خلال الأمسية بسبب ضيق الوقت .
ومما قاله الشاعر شوقي بزيع أنّ أهم تكريم يحصل للشاعر هو أن تقرأ قصائده وتشرّح كلماتها في مداخلات نقدية موضوعية ..وفي ختام الأمسية قرأ الشاعر بزيع قصيدة ” مريم ”
دراسة الدكتورة دورين نصر حول شعر وقصائد شوقي بزيع :
قراءة نقديّة في شعر شوقي بزيع
بقلم د. دورين نصر
قال شوقي بزيع:
أشهدُ أنّ الكتابةَ وهمٌ
وأنّك لا تشبهين الكلام
وأنّك أنتِ البدايةُ والعمقُ أنتِ الختام
وأنتِ الحبيبةُ حتّى تجيءَ العصافيرُ
أنتِ الحبيبةُ حتّى يطيرَ الحمامْ
دعوني أرَ موجةً تتعرّى
دعوني أرَ امرأةً تخلع الماءَ عنّي
إذا بلّلتني الكتابه
أقول النساء وأعني الحبيبه
أقول المساء وأعني الحبيبة
بين بودلير وملارميه، يقف شوقي بزيع. ربّما تكفيك هذه الأبيات لنقول بأنّك تؤدّي بالكلمات ما كانت تؤدّيه موسيقى فاجنر بالأصوات، فالأصوات كلّها صارت الحبيبة، والنساء والمساء هما المعادل الموضوعي لها.
في الواقع، لا يمكننا في هذه الندوة أن نلمّ بكلّ الجوانب التي تحيط بشعر شوقي بزيع وهو الغنيّ عن التعريف.
إنّ أوّل ما يلفت النظر في نصوص شوقي بزيع اختفاء البيت، إذ يجعل الكلمات تنتظم وفق هيئة مستجدّة. وكأنّ بناء الجملة هو الذي يملي على القصيدة هيئتها.لا يكفينا القول بأنّ الهيئة المستجدّة تتناغم مع الشعر الحرّ، وتُحِلّ نفسَهامن وحدة الروي والقافية، إذ إنّ ما تتخلّص منه لا يعني تخلّي القصيدة عن أيّ قواعد أو مقتضيات، بل يعني أنّها اختارت قواعد أخرى لانتظام الكلام فيها.
لذلك لا بدّ لنا في هذه الورقة من أن ننطلق من كون القصيدة نصًّا لغويًّا، يتعيّن في تشكّلات بنائيّة متداخلة. بالتالي، في الوقت المُتاح لي أريد أن أسلّط الضوء على حضور الضمائر في نصوص شوقي بزيع الشعريّة لا سيّما ضميري المتكلّم والمخاطب، إذ إنّ توظيفها في النّصّ، هو عنصرٌ أساسيٌّ من مكوّنات البناء النّصّي. فالأصوات الثلاثة (أنا – أنت – هو) لا تمثّل قيمة تعبيريّة أو جماليّة تظلّ ملازمة للضمير في كلّ مرّة يُستخدم فيها، وإنّما تتّحد الوظيفة التعبيريّة أو الجماليّة لاستخدام أيّ صوت من هذه الأصوات الثلاثة، وفقًا للموضوع الذي ترِدُ فيه. بالتالي، تكون فاعليّة ضمير المتكلّم وثيقة الصلة بفاعليّة الأنا الشعريّة كون النصوص المسرودة بضمير المتكلّم تتّخذ طابعًا شخصيًّا، وفي بعض الأحيان تحليليًّا. فيتواتر هذا الضمير في نصوص شوقي بزيع، ويتكرّر بشكله المنفصل (أنا) وبهيئتة المستترة؛ نجده يقول:
أسألكم شجرَا / أسألكم مطرًا / أغنّي وحيدًا / أبقى أنا عاشقَ الوهم / أنا النّهر / أنا الأزرق المتموّج أغنّي وأحلم كالسروة الخاسرة.
إنّ الاسم الذي يحيل عليه الضمير (المرجَع) غائب في سياق النّصّ، والنّصّ لا يزوّدنا بالمعلومة الضروريّة عن المتكلّم؛ وانطلاقًا من هذه الفكرة، فقد استبعد النّقد الحديث الشّاعر كذات تمارس حياتها خارج اللّغة في تحليل الخطاب الشّعري. وقد استقلّ النّصّ عن الشّاعر وأصبح فاعليّة قرائيّة تحدث بقدرة القارئ فحسب. يقول في قصيدة (ما قاله الرجل الذي لم يمت في الحرب الأخيرة)
“ليس هذا الفراغُ المخيف بلادي
وهذا السرير الذي يصلُ الموجَ بالموج
ليس سريري
لم يستطع أحدٌ أن يكلّمَ روحيَ في المهد
لم يستطع أحدٌ أن يقول الذي أخبرتني به النجمةُ الغاربة
إنّ ضمير المتكلّم (أنا) وإن كان يدلّ على الحضور، فإنّه يصبح عاجزًا عن أن يملأ وظائفَه بنفسه. فالمتكلّم نفى أن يكون هذا الفراغ المخيف يمثّل بلادَه، كما نفى إمكانيّة وجود أحد يكلّم روحه أو يقول له ما أخبرته به النجمة الغاربة. بهذا يصبح (الأنا) دالاًّ لمدلولات غير محدودة، أي حاضرًا من حيث الدال وغائبًا من حيث المدلول.
وفي مواقع أخرى، يحيلنا ضمير المتكلّم إلى مرجعيّات عدّة حيث تتصادم الطفولة بالواقع، و “تتشظّى” في صورة موحّدة تنسج بين مختلف المضامين.
فعالم الطفولة يشكّل جزءًا بارزًا في مسار الذات المتكلّمة، إذ يقول:
“تعب الطّفل في داخلي، و
الطفلُ الذي طاردت نحلة الحزنِ
ورَدتهُ
تحتَ سمع الوطنِ
ومرآه
طفلٌ تعلّمه أمّه أن يحبّ جميع النّساء
لكنّه ذات يومٍ رأى الناس
يبكون من حوله
فبكى
إنّ الطفولة في ذهن المتلقّي وعرفه الثقافي رمز للبراءة والجمال، إلاّ أنّها تصبح في نصّ شوقي بزيع رمزًا للتعب والبكاء، ما يدلّ على الشّعور بالضياع، والغياب بين زمنين: زمن الطفولة والزمن الآتي، وما يحيلنا إلى واقع مفكّك يتجابه معه.
وتتقمّس “أنا المتكلّم” أنا الماغوط إذ يقول في قصيدة “فجوة الشقاء”:
غير أنّني حاولتُ عبرَ اللّمسِ
أن أزيل فجوة الشّقاءِ تلك،
مُصغيًا إلى صراخ نبضْها
الذي يدقُّ كالطّبولِ
في أعالي الرّقص،
علّني؛ محاذيًا جمالها
أصُبُّ فيه ما أصَبتُه
من فارق السنين بيننا
لكن بلا أمل
رحتُ أعدو لاهثًا وراء جسمها.
ويردف شوقي بزيع قائلاً في القصيدة عينها:
البندقيّةُ التي قضيتَ، يا توماس،
في أوحالِها
كاللاذقيّة التي يلوح لازوردُها هنيهةً
ويختفي إلى الأبد
ليست سوى مدينة ٍ من اختراِعنا،
مدينةٍ منحوتةٍ
من توقِنا للموت
نرى من خلال هذه الأمثلة المتكلّم ينصاع وراء ذاته وهي تتقنّع بالأنا الجمعي. فيغدو شعر شوقي شعر الصوت الواحد وشعر اللّحظة الآنية، حيث تلتقي الذات المتفرّدة بالذات الجماعيّة. ويميّز في هذا الصّدد غالي شكري بين الشّعر الذاتي الذي يصوغ تجربة خاصّة بالشّاعر، وبين الشّعر الذي يجعل من القضيّة العامّة قضيّته الشخصيّة. ما يحيلنا إلى أبناء المجتمع الذين يعانون القهر “مدينة منحوتة من توقنا للموت”، وتُمسي اللّغة ناقلاً أمينًا لهم تعبّر بصدق عن عمق المأساة التي هُم بصددها.
استنادًا إلى الأمثلة السابقة التي أوردنا بعضًا منها، يمكننا أن نميّز بين أنا الشّاعر وأنا الشّعر. فأنا الشّاعر تطفو على سطح الذات المرتبطة بالمجتمع وظاهر الحياة، بينما أنا الشّعر متحرّرة وليست حرّة لأنّها تتقيّد بعوالم داخليّة تتّصل باللّاوعي في مختلف أشكاله. فكيف تستطيع هذه الذات أن تحافظ على حضورها، وليس لديها أيّة وسيلة ولا إمكانيّة لتحقيق وجودها سوى اللّجوء إلى اللّغة؟ وذلك بغية خلق واقع مغاير يوازي الواقع الراهن الذي تعيش فيه؛ عبر استخدامها لضمير المتكلّم، وتكراره بشكل ملحوظ أتى في محاولة من أجل الخروج من المأزق النفسي الداخلي، وتخفيف الضغط الخارحي. وتبقى الأسئلة: إلى أين تذهب الأنا؟ لا الماضي يشفيها ولا الواقع يرضيها ولا الهروب ينقذه منها. كيف تلملم أجزاءها المبعثرة؟ هي الحبّ والشوق والرغبة والموت. هي نفسها وأهلها ومجتمعها ووطنها المجروح، هي الضعيفة المتألّمة، الحزينة والثائرة.
لذلك، نجد المتكلّم قلّما ينصرف إلى رسم صورة تخصّه وحده في وضعيّات إرساليّة معقودة بينهما في الغالب حيث يتلاعب المتكلّم بمستويات الخطاب. فهو يرسل كلامه إلى المخاطب المرأة: الحبيبة فتحتفي النّصوص بمخاطب ضمني يدلّنا على كون الخطاب موجّهًا إلى امرأة أو إلى مدينة.
وقد تجلّت صورة المرأة المقدّسة عند شوقي بزيع في فترة شعره الأوّل، إذ كانت ترمز إلى الطهارة والصفاء، من خلال الموروث التاريخي والديني. فنجدها “فاطمة” في قصيدة “أغنيات العاشق الأخير”، فاطمة التي تقف بين منتصف الأشياء لتغمر الأرض بطهارتها، وتشبه الوعد الذي لا يجيء، إذ يقول:
“وقفت فاطمة
بين منتصف الحلمِ والأقحوانِ النسائيِّ
أشتهي نجمةً فتصير امرأة
أشتهي امرأة فتصير احتمال”
وفي استدعاء آخر للطهارة يستدعي بزيع زينب، بما تحمله من قداسة وطهر لارتباطها بزينب بنت الحسين رضي الله عنهما، لتُفرغ حزنها المتوارث منذ كربلاء، والمستمرّ إلى قانا وصور وبيروت، في بئر الحزن والضياع الذي يشهدَه لبنان، فيقول الشّاعر:
“الأرض نصفُ مضيئةٍ
والعائدون من الخناجِرِ أعتقوا دمَهم
لتخرجَ زينبُ:
العينان ساحرتان، والشّفتان تنتشلان ماءً غامضًا،
وأميرةُ الفقراء تُفرغُ حزنَها في البئرِ”
وفي قصيدةٍ أخرى يتمثّل حضور (المخاطبة) في ضمير الاتّصال (الكاف)، ولكن من هي هذه الحبيبة التي تَوجّه إليها المخاطب بالخطاب؟ فالنّصّ لا يذكر اسمها ولا يذكر تفاصيل وجودها، فقط عرفنا بأنّه على اسمها تكون البدايات والنهايات، ويُفتتح الكلام، لكنّها غائبة على مستوى واقع التكلّم. بالتالي، الضمير الذي يُحيل إلى هذه المخاطبة يصبح دالاًّ لمدلولٍ شامل ينفتح على أكثر من مخاطبة. والمتكلّم يُرسل قوله الشعريّ كصيغة تخاطبيّة إلى قلقٍ محتمل أو ضمني، إذ يقول:
“لأنّكِ فاتحةُ الكلمات وفاتحةُ القلبِ
أبدأ باسمِك هذا الكلامَ”
وفي مواضع أخرى، تظهر المرأة الشهوة وهي التي تكوّنت في مرحلة متأخّرة من شعره فيقول تارةً:
“تراءت لي مراياها
كإكليل من الشّهوة”
ويقول طورًا في قصيدة (أنا ملِك العاشقين الأخير):
أُطلُّ على مواكب الأرض
من فجوةٍ في السّحب
فأبصرُه سابحًا في مياه الأنوثة كالنّهدِ
عصفورتان تطيران بالقرب منّي
وفي قصيدة أخرى يرى أنّ العشق استحالة، وأنّ النّساء لا يليق بهنّ الإخلاص:
“كلّ امرأةٍ أحبّها تؤكّد استحالةَ النّساء”
والواقع، إنّ الصورة النصفيّة للمرأة الغائبة عن تشكيل النّصّ قد شاعت في شعر شوقي بزيع، لكنّها لم تلغِ صورة المرأة الحالمة. فكان جريئًا في إظهار المسكوت عنه لتكتمل التجربة عند المتلقّي كما هي في نفس المبدع.
بالتالي، فإنّ حضور ضمير المخاطب في خطاب شوقي بزيع الشعريّ، يظهر في مستويات متعدّدة لأنّ المخاطب مرتبط دائمًا بنوع من الغياب في مستوى الذات الواقعيّة، ومرتبط بالبعد الدلالي في النّصّ ويسعى إلى إيصال رسالة الذات إلى كلّ من يتلقّى الخطاب، من أجل عرض هذه الذات ما بداخلها للمتلقّي الخارجيّ.
بالتالي، فإنّ المعاني الدلاليّة في قصيدة شوقي بزيع تُظهر أنّ المعنى الواحد لم يعد قائمًا في عبارة، بل بات يتنقّل في مواضع مختلفة، واستنادًا إلى Fontanille، إنّ الوصف الجزئي للبنية الأساسيّة ولمعانيها يسمح بأن نتنبّه لتنظيم العالم الدلالي في مجمله.
هكذا المرأة عند شوقي بزيع هي: قدّيسة وحبيبة مشتهاة حاضرة في شعره وهي غاية من غاياته وتكاد أحيانًا تتطابق مع الوطن، فتمزج صورتُها الحسيّة بصورتها المعنويّة.
خلاصة القول، إنّ القصيدة عند شوقي بزيع هي قصيدة مكتملة ومكتنزة، كائن حيّ مستقلّ، مادّتها النثر وغايتها الشّعر. فقد أنزل شوقي بزيع لغة القصيدة الحديثة من سماء الحنين الرومنسي إلى أرض الواقع المأزوم. كما أنّنا تحقّقنا من خلال هذه الدراسة من وجود هويّة مزدوجة للأنا بين الشّاعر والمتكلّم ضمن أطياف تعبُر التلفّظ، حيث أُنزلت الأنا من مكانة العنجهيّة إلى مستوى الحياة. ولم تعد المرأة رمزًا للغزل أو مقصدًا للعاطفة أو خطابًا للتغنّي في القصيدة، وإنّما باتت تمثّل حوارًا بين المتكلّم ونفسه عبر الحبيبة التي باتت لها هيئة أخرى واقعة بين المرأة الحبيبة والمرأة الشهوة.
ففتحت بالتالي تجربة شوقي بزيع الشعريّة منافذ جديدة في الشّعر العربي المعاصر إذ ارتبطت بالاتجاهات الحديثة التي تبلورت نتيجة التفاعل بين مختلف التيارات الأدبيّة.