قدمت الكاتبة الدكتورة سحر حيدر دراسة نقدية حول رواية ” الملعون المقدس ” للمؤلف د. محمد إقبال حرب في ندوة أقامنها رابطة الابداع من أجل السلام في قاعة مكتبة برزخ في شارع الحمراء في بيروت .
ولأهمية هذه المداخلة الأكاديمية في الندوة الفكرية التي قدمتها الشاعرة ليلى الداهوك وشارك فيها الدكتور عماد فغالي والدكتور علي نسر , يعيد موقع ميزان الزمان الأدبي في بيروت نشرها للإفادة والتوثيق .
هنا النص :
مداخلة د. سحر حيدر في ندوة حول رواية “الملعون المقدّس للروائي د. محمد إقبال حرب.
مكتبة برزخ في 25/3/2022
مساء الخير للجميع،
إسمحوا لي بدايةً أن أشكركم على حضوركم كما أشكر د. محمد إقبال حرب على ثقته وعلى هذا النشاط المميّز في زمن القحط الثقافيّ.
يقول غوستاف فلوبير مدافعًا عن روايته الشهيرة “مدام بوفاري” “إنَّ أخلاقيةً تخافُ سماعَ صوت الحقيقةِ ليست جديرةً بهذا الاسم. في وسعِ الناس ألّا يحبّوا الحقيقة، وفي وسعهم أن يرونها جريئةً ومزعجة، ولكن الاعتقاد بأنّ الناس سوف يسيطرون ذات يوم على الحقيقة ويستعبدونها، ليس أكثرَ من بدعةٍ وجنون. إنَّ الحقيقةَ سوف تعيشُ دائمًا، أمّا البشر ففانون.” ويقول محامي فلوبير ماري سينار” هل قراءةُ مثلِ هذا الكتاب – رواية مدام بوفاري- توحي بحبّ الرذيلة أم توحي ببشاعة الرذيلة؟! مِنَ الممكن التعبير عن فكرة الكتاب بهذه الكلمات: الدعوة إلى الفضيلة ببشاعة الرذيلة.”
تعرَّض غوستاف فلوبير للمحاكمة بسبب روايته، حيث تمَّ اتهامُهُ بارتكابِ جرائمِ الإساءة إلى الأخلاقِ العامّة والدين وخدشِ الحياء. لستُ هنا للمقارنة بين الروايتين أو لنقد رواية د. محمد إقبال حرب، أو حتى تفكيكِ رموزها، لكنّني أرغبُ وبصدق توجيهَ الشكر للدكتور حرب على هذه الرواية النموذج بالرغم من مراودةِ المرادِفات عن نفسها والإصرار على تسمية الأشياء باسمائها، على غرار ما فعله فلوبير. وتبقى الحقيقة هي الهدف الأسمى.
سأنطلق في مداخلتي من عُنوان الكتاب ” الملعون المقدّس” الذي يُدخلنا في الثنائياّت ومبدأ الأضداد. ثنائياّتٌ تجعل القارىء بين نقمةٍ على الشخصية الأساسيّة وتعاطفٍ معها. ثنائياّتٌ لا يمكن تجاوزها لأنّها تتكرّر في نصّ د. محمد لدرجة تسمح لنا بالتعرّض لطبيعة الشيطان الذي تنسب اليه جميع الموبقات والشرور، كما تناولها الحلاج. فهو في أصله “ملاكٌ” رفض السجود لغير الله وهو شيطانٌ عصى أمر الله، فبات ملعونًا. “الملعون المقدّس” عنوانًا يثير دهشتنا منذ اللحظة الأولى، ويحثّنا على الغوص بفضولٍ لكشف خفايا المحتوى. محتوى رواية غابت مقدّمتها، حملتنا مباشرةً إلى عالمٍ ملعونٍ مقدّس نزل بنا من دون استئذان الى الدرك الأسفل من الآثام والانتهاكات، وما لبث أن سلك بنا دربَ الفضيلةِ بتداخل بين الواقع والمتخيّل من خلال المسامحة والتوبةٍ والولادة الجديدة. “بورك من استحقّ ولادة جديدة” )ص 155)
أيّها السادة، في عمق أعماق كلّ منا “عرقول” يحاول إسكات صوته كيلا يتألّم.
اعتدنا المشي على ضفاف الكلمات والتخفّي خلف ستار الوهن والخوف والقلق. وإن أصابتنا مصيبة نعضّ على الجرح ونرعف ألمنا بصوتٍ أخرس خوفًا من شماتة أو فضيحة غيرِ متوقّعة أو حتى هربًا من المواجهة ومحاسبة الذات. نجلد أنفسنا وننتقم من أرواحنا إن طلبت “حاجةٍ مقدّسة” حوّلتها القواميس البشرية إلى شهوات وألبستها أثوابًا ضيّقة، فترانا نغيب خلف ستار العفّة وأنفسُنا تزفر بمئة أمنية وأمنية… أيجرؤ أحدهم على قولات كتلك التي خططتَها يا د. محمد بسياقٍ فني أدبي يُشهَد له؟!
تراه من يُمسك بالقلم ويصوّر زبانية الجحيم ومشهديّات الدينونة من دون وجل؟ ماذا فعلتَ بالقارئ؟ وأنّى لك هذه العبارات التي تمنع عنا حتى الهواء؟
أراك هناك قابعًا خلف السطور تنظرنا بعين الصقر، تضحك من خوفنا وكأنك تتقصّد الغوص إلى أعماقنا المتعبة، تحثّ كلًّا منا على فحص ضميره قبل أن تحين الساعة… تستنهض بَوحَنا فنشعر بالانقباض. من ثمّ تندسّ تحت وسادة التوبة الراقية وتعلن قائلًا:” كلّ يستحق فرصة جديدة ليختار بنفسه أي وترٍ يريد ليعزف اللحن الذي يريده ( ص 154 )
لا شكّ أن كاتب الرواية إنسانٌ ثقيف متعدد الروافد إلى جانب كونه باحثًا جادًّا. وما الكتاب بين أيدينا روايةٌ جنسية تتناول بكلّ جرأة مصطلحاتٍ وأفعالًا يجرؤ القليلون على التداول بها. إنما هو بحث اجتماعي بامتياز، يسلّط الضوء على خوفنا المربَك وتمسّكنا بالمعتقدات البالية والموروثات المتحجّرة، ويشير إلى أهمية التربية الجنسّية الواعية وضرورة الإحاطة بالأبناء متى تعرّض أحدهم لأزمة معيّنة. ويبرز تقهقرُ القيم وحصرُها في القشور؛ تلك التي لا زالت تؤمن أن غشاء البكارة هو مفتاح السعادة (ص 31) وهو شهادة شرف مختومة بعضو ذكريّ شرعيّ”. (ص 32)
نعم هو بحثٌ طرح مشاكل واقعٍ، أتعبه بأسلوبٍ أدبيّ فلسفيّ فنيّ ميثولوجيّ، لا يخلو من العلم والفقه والمقاربات الدينية بجرأةٍ قلّ نظيرها، فجاءت روايته تصويريّة لواقعٍ إنسانيّ مثيرٍ للجدل، متجاوزًا من خلال صورٍه الفاضحة واسلوبه الاستفزازيّ كلّ حدود.
غالبًا ما يتمّ التركيز على العنف تجاه المرأة، وكأنّ الرجل ليس عُضةً لمثل هذا النوع من العنف بخاصةٍ العنف الجنسيّ. من هنا نرى الكاتب يقلب الموازين في الاتجاه المعاكس حيث “رجُلُه” هو الضحية التي تتحول لاحقًا إلى جانٍ لا يرحم. فيتحوّل المعنَّف إلى معنِّف انتقامًا لشرفه وعرضه المثلوم محاولًا استرداد صورته المشوّهة التي داست كرامته وقلبت كيانه.
أشار الكاتب من خلال شخصيّةٍ ابتكرها، إلى حرصنا على الهروب وكتم الإساءة بل نكرانها علنًا. ننجو من الأحكام المسبقة والمتناثرة ووضَع تحت المجهر حقيقةَ تربيتنا المنتقصة والناقصة التي تختبئ خلف وهن الدين والسلطة والثروة، وتحاسب الضحيّة بدلًا من حمايتها، وتلتمس الأعذار للجاني درءًا للفضيحة أو حرصًا منّا على موقعه ومكانته وصورته الذكوريّة الشرقيّة التي باتت كخيال المآتة. “واهنةٌ ينخرها السوس وتأكل من وجودها ديدان الجهل وغياب الوعي”.
سبر د. محمد إقبال حرب، في روايته، أغوار النفس البشرية التي عانت على مدى عصور من الظلم والفساد، والانتهاك والاعتداء، والقسوة والشذوذ بمختلف أشكاله. وطرح سؤالًا وجوديًّا من خلال بطل روايته “عرقول”: “ما ذنبي في سيرة حياتي المثيرة لحوادث جرت عليّ أوردتني درب المعصية؟” خاطب عقولنا وضمائرنا وحاكى واقعًا نعيشه متنكّرين لما يحصل على مختلف الصعد الاجتماعيّة، الإنسانيّة وحتى السياسيّة، خوفًا من المواجهة أو لعجزٍ أعاق اعتراضنا وحركتنا. فتآلفنا مع البؤس واليأس وانصعنا طائعين نحو الهاوية حيث “زبانية العذاب الأكبر” تهدد سكينتنا في كلّ آن، وتلجم ألسنتنا عن النطق وعقولنا عن الثورة.
ندين الآخر، نلومه، نتهرّب من المسؤولية. نرى دائمًا النتائج ونحاكم على أساسها من دون أن نتبيّن الحقائق ونصدر الأحكام بشكل عشوائي من دون سماع منطق الآخر.
نسمعه يقول على لسان عرقول: “هل أنا المذنب الوحيد على هذه الأرض؟ أين بقية المجرمين والمنافقين وسفّاحي المحارم؟ ألم يبقَ إلاّ سواي على هذه الأرض ليُضحَّى به في سبيل العدالة؟ (ص 74). ويتساءل:” من قال لك بأنّ البشر أنقياء؟ هناك كثير من البشر أكثر منك بشاعة لكنهم يعرفون كيف يلبسون أقنعة البراءة”) ص 117( ويضيف: “أوبئة البشريّة وموروثاتها البالية في أشكالها المتعدّدة التي تتخفّى تحت ستار القيم، بعضها يتّخذ الدين قناعًا والبعض يتّخذ السلطة درعًا واقيًا وغيرها يتّخذ الجاه وغير ذلك من أسباب التستّر والتخفّي لاستعباد حاملي جينات الخوف المتوارثة.. البسطاء أصحاب القلوب النقيّة (ص 105). كما لم تغِبْ من صوره مسألة الدين الموروث والعلاقة المشروطة بالله: “أنقذني وسأكون عبدًا طائعًا يصلّي ويصوم” (ص 26).
هذه الرواية هي “ثورة محمد إقبال حرب” على الجهل والضَّعف البشريّ والانصياع اللاواعي لكلّ ما يقضي على إنسانيتنا. وُجد القانون للمحافظة على الناس لا لتشويه صورتهم والمساس بكرامتهم (ص 159)، ومهمّتنا في القضاء هي العدل ثانيًا والحفاظ على إنسانية البشر أولًا (ص 168).
قد تكون الرواية قاسية جدًا وقد تثير الاشمئزاز لدى البعض، لكنّنا اعتدنا أن نجمّل صورة الألم فيما اختار الكاتب اللجوء إلى المبضع والكيّ. لا بأس إن خضعنا إلى عمليّة غسل أدمغتنا وتنقيتها من شوائب “الموروثات والتقاليد البالية المزيّفة” التي سيّجت مجتمعاتنا بأسوار دامية..
من ناحيتي أرفع الصوت إلى جانب د. حرب وأقول نعم لمناهضة العنف بمختلف أشكاله. نعم لثقافة الإنسان والإنسانية. نعم للتغيير وقبول الآخر والاصغاء إلى ألمه ومعاناته ومساندته. نعم لسطوة العدالة الاجتماعيّة وإعلاء صوت الحقّ والضمير مهما كان ذلك موجعًا. الحقيقة تفضح وتصيبنا بالقلق والاضطراب والخوف وربما الغثيان، غير أنّ المواجهة هي الطريق الأقصر والأسمى للعيش بفرحٍ وسلام ومصالحة مع الذات والآخر.
ليتماهَ كلّ منا على هواه مع أحداث هذه الرواية، ولينظر إلى أعماق ذاته وإلى صورته الملغومة خلف ستار الطهر أحيانًا. أقولها من دون تردّد: إن كان هناك من دين جديد يودّ الكاتب الإعلان عنه فهو حتمًا دين الإنسانيّة الحقّ الذي يؤمن بعدالة السماء ورحمتها. “من منكم بلا خطيئة فليرجم د محمد حرب بحجر، وكلُّ ” ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ”.
ختامًا أدعوكم الى قراءة الرواية بتفكّر وهدوء وإن أصابكم الألم المقزز. وأعد نفسي بكتابات جديدة لمن اختار الدرب ذاتها. بكم وبأمثالكم تغتني مكتبتنا العربية وتنهض إنسانيّتنا الفكرية والوجودية. شكرًا.
لمن يرغب مشاهدة وحضور فيديو مداخلة الدكتورة سحر حيدر في الندوة , الضغط على الرابط أدناه :