” مورفين”
( قصة قصيرة للكاتب حسين إبراهيم )
-×-×-×-×-×-
ها هي الشمسُ تُباشر في إغراءاتها المسائية، تخلعُ عنها وشاحَها الموشّى بشهوةِ الأرجوان، وترميه على صفحةِ السماء الشاحبة، فتلتحفه تلك الأخيرة بلهفةِ العذارى إلى الجماع. ويأخذُ الدم يتضرّج من الشمس اللعوب، جاعلا جسدها المكوّر العاري، يتورّدُ اشتعالا، لتترنّحَ غارقةً في بحرِ النشوةِ المستحيلة.
وكما في كلّ مساء، أجرّ قدميَّ بكسلٍ نشيط نحو مقهى البلدة. أكادُ أُشنَقُ بحبل العادة، لكنني أدخلُ إلى المقهى كالعادة، وأقابل الوجوه نفسها. لا ألقي التحية على أحد، بل أخترق جدران الدخان التي بناها الحاضرون بنراجيلهم، وأتوجه فورا، وكالعادة، إلى الطاولة المركونة في زاوية المقهى، كما لو أنها حُجزت باسمي منذ ألف عام. أطلبُ كوبا من الشاي، علما أنني أُدمنُ القهوة. لا أدري ما الذي يجعلني أقدم على مثل هذا الفعل، ربما أريدُ أن أُحدث تغييرا ما.. أنْ أُرخي قليلا من الحبل الذي يطوّق عنقي. أُخرِجُ كتابا من معطفي، لكن لا.. لن أطالع اليوم. بل سأجلسُ هكذا، كأي فضوليٍّ متعطش لسماع أحاديث الآخرين.
وأوّل من يلفتُ انتباهي، شابّا البلدة المثقفان: شربل وعمر. يصيح شربل متذمرا وهو يحدق في التلفاز، أو ربما في جهة أخرى:
_ كم الساعة؟ متى سيعلنون النتيجة وتبرد قلوبنا؟
فيجيبه عمر:
_ لقد كانت انتخابات نزيهة، أراهن على مفعولها البنّاء في التغيير.
فيُخفت شربل صوته ويهمس لعمر:
_ دعكَ من المراهنات وانظر إلى يمينك.. لا تلفت الأنظار أيها الأحمق. أترى تلك التي ترتدي ثوبا أحمر؟ إنها سوسن، يا رجل.. صاروخ!!
وألتفت مع عمر لأرى الصاروخ الذي يشير إليه شربل، فأجد شابتين أنيقتين تتهامسان في أمرٍ مُلحّ. ويثيرني الفضول، فأعدّل من جلستي وأصيخ السمع:
_ اليوم… عند الساعة الحادية عشرة وإحدى عشرة دقيقة ليلا، سوف أهرب معه.
_ ها نحن من جديد، لقد مرّ شهر وأنتِ تكررين الديباجة نفسها يا سوسن. ألا تملّين؟ استسلمي للأمر الواقع وكفاكِ جنونا.
_ مستحيل… سأهرب معه، لن أدع والدي المعتوه يزوّجني لذاك المسخ.
تصمتُ سوسن قليلا وتداعبُ شعرها الطويل، ثم تقول لصديقتها بنبرة مشحونة بالتحدي:
_ بالمناسبة أفكر في قصّ شعري، ما رأيك؟
_ يا ربّي!!…
يعكّر عليّ تنصُّتي المخابراتي هذا، صوتُ قهقهات مرتفع، ينبثق من آخر المقهى، حيث يجلس عجائز البلدة ليتسامروا. يصيح أبو مازن:
_ كم عدد هذه الورقة يا أبا أحمد؟ دعني أحزر. العاشرة بعد الألف؟
وينفجر ضاحكا مع كل من يجلس إلى الطاولة. ثم يتابع صائحا:
_ بالله عليك يا أبا أحمد، ألم تسأم اليانصيب؟ هو نفسه سئم منك، سيقول لك في نهاية المطاف: لن أكون لك يا أبا أحمد، ألا تفهم؟ إني مرتبط، وحق الكعبة مرتبط.
وينفجر الجميع مجددا في الضحك، بمن فيهم أبو أحمد.
ثم يسأله أبو علي:
_ ما هو أول شيء تنوي شراءه إذا فزت يا أبا أحمد؟
يجيب أبو أحمد برصانته التي لا تخلو من حس الفكاهة:
_ زوجة جديدة.
ويضج المقهى كله بصوت قهقهاتهم الهستيرية. ولكن سرعان ما يعود أبو أحمد إلى نبرته الرصينة الهادئة:
_ والله إني محتار يا أبا علي، أفكّر في شراء ثلاجة… أو ربما غسالة. المسكينة أم أحمد ستُشَلّ يداها من كثرة الدعك.
وأنتبه إلى أم حسان التي تجلس إلى الطاولة المقابلة لي، تزفّ نبأ سارا على المرأة الجالسة إلى جانبها:
_ اسمعيني يا أم فاضل. اتصلَ بي في الصباح ابني حسان، رعاه الله وحماه من كل عين حاسدة.
وتشدّد على كلمة “حاسدة” حادجةً بأنظارها باقي النساء في المقهى، ثم تردف خافتة صوتها، كي لا يسمعها الآخرون:
_ لقد أكّد لي أنه عائد من السفر في الأسبوع القادم.
وتحاول أم فاضل أن تعلق بشيء، على ما يبدو سلبي، إذ تردعها أم حسان ناهرةً في وجهها:
_ تمهّلي.. تمهّلي.. فائرةُ الدم كعادتك. أقول لكِ إنّه أكّد لي هذه المرة، ولن يتخلّف كما في المرة السابقة. يا الله.. كم أشتاقه يا أم فاضل، ليته يقبر قلبي.
وألتفتُ إلى طاولة أخرى، ها هو أبو جوزيف يحدّث رفاقه عن رحلته السابعة التي ينوي القيام بها لاصطياد سمكة “نبتون”:
_ كنتُ وشيكا جدا في المرة الأخيرة. لن تضيعَ مني هذه المرة.
يقاطعه أبو طوني ساخرا:
_ تعقّل أيها السندباد المهووس، تعقّل. ألم يعد يملأ السردين عينيك؟
_ السردين؟ أتعرف كم تساوي هذه السمكة النادرة أيها الساذج؟ إنها ثروة… ثروة لا تُضاهى. لا.. لن تفلت مني هذه المرة. أقسم بذلك. ستكون كنزي المُرتقب.
وفجأةً يصرخ شربل طالبا من الجميع أن يصمتوا، ويُسمّروا عيونهم على شاشة التلفاز، لمتابعة نتيجة الانتخابات التي بدأ للتّو الإعلان عنها، وإذ بالخيبة تعصف بالحضور، طاحنةً معها آمالهم:
_ ألم أقل لكم؟! الوجوه نفسها.
_ يا عذراء أيُعقل؟
_ مؤامرة… إنها مؤامرة دون شك.
_ لمَ هذا الذهول كله، أكنتم تتوقعون أن يفوز أحد غيرهم؟
_ والله إنه بلد يستحق الردم.
ويستمرُّ الهرج والمرج في المقهى، كلٌّ يسأل الآخر عن المرشّح الذي انتخبه. لكن الإجابات تأتي موحّدة: لم أنتخب أحدا. باستثناء شربل وعمر؛ الشابين المثقفين، يرفعان صوتيهما بفخر: أمّا نحن فقد قمنا بواجبنا واتخذنا القرار الصحيح: أسقطنا ورقة بيضاء.
ويصيحُ أبو شريف مروّضا الحضور الجامح:
_ يا جماعة.. يا جماعة.. دعونا من السياسة، بالله عليكم ما الذي تجلبه لنا غير الصداع؟
_ صدقتَ يا أبو شريف، للسياسة ناسها، دعونا نحن نلهو ونضحك قليلا، من يودّ أن أكسّر رأسه في الكوتشينه؟ هيا تقدّموا أيها الرعاع…
أجد كوب الشاي قد برد، فأنحيه جانبا. أم أنه لم يبرد؟ أطلب كوبا آخر إلا أن صاحب المقهى يعلن الإغلاق.
ويغادر الجميع كالدجاج، صامتين حزانى، نحو قنّهم. أتبعهم على مضض، بالكسل النشيط نفسه الذي أتيت به. وكالعادة، أقف لوحدي خارج المقهى بعد أن يتفرّق الجمْع، وأحدّق بشرود عميق في اسم المقهى الذي يخفتُ شيئا فشيئا مع الأضواء: مورفين. وأسألُ نفسي كالعادة، السؤال التافه نفسه: لماذا أصبحوا في هذه الأيام يُعطون لمقاهيهم أسماءً أجنبية؟ أجرّ قدميّ نحو القنّ، وأخترق جدران الظلام التي خلّفتها الشمس اللعوب في طريقي. وأردّدُ في ذهني اسم المقهى، غارقا في بحر النشوة المستحيلة.
( الكاتب حسين إبراهيم/ لبنان )
القصة جميلة وتحاكي الواقع .
الأسلوب مميز يجعلنا نمشي معك الى هذا المقهى المليء بالاحداث المسلية. ..وأما المقدمة تحتوي على انزياحات في اللغة وهذا ما يميزها ويشد القارئ. مبدع صديقي .انت دائما متميز