جدالية الشعر والنثر
إحدى مظاهر “مجتمع الظل”، هي تجليات الشعر. هي تجليات النثر. تأتي عادة، في المجموعات الواعدة التي تصدر عن جيل يعاني عقد الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء. إن هي إلا مكبوتات فردية، سرعان ما تقرأ لونا من ألوان الحياة الإجتماعية. لونا من ألوان الحياة المجتمعية. يحسن جيل الأدب المعاصر، الإصغاء للنداءات البعيدة للنداءات القريبة. للنداءات الدفينة. تراها تجري في عيونه مجرى الدمع. تستحضر مناخات الطفولة. تراوح بين الشك واليقين، في بداهة الحقيقة وأيقاعها الماثل للعيان. خصوصا في حالات المد والجزر. حيث العاطفة الجياشة وحيث نثار الرغبات والاماني المفتتة، ومخاتلة للحلم، الذي لا يبرح العتبات، في جدالية حثيثة بين الشك والحقيقة. بين الشيء ونقيضه. في جدالية حثيثة بين الشعر وبين النثر، لغة وظلالا ومدركات ومعاني شفافة. وهذا ما يضعنا أما برهة قلقة من حياة الأديب، حيث فوضى المشاعر والعواطف والأحلام، وما يتبعثر هنا وهناك، في جعبة الذات والطبيعة والحياة الواقعية.
لا تشذ تجربة الأديبة الواعدة الأستاذة: (نجاح الداعوق: نبض حرف. فواصل. بيروت. ط1. 2019. توزيع دار الفرات. 130 ص تقريبا)، في خاطراتها النثرية، عن هذا المعنى. فهي أشبه ما تكون بتشكيل نفسي، يتخايل إليها عبر أزمنة طويلة. إستعادتها في برهة الإبداع، التي تفيض صمتا عميقا، على الورق الأبيض، في ساعات الوحدة والتعالي والكبرياء: أنيسة الجروح. وأنيسة الأمكنة. وأنيسة الذكريات التي تقطر الوقت.
يرشح نص نجاح الداعوق، بما يمكن أن نسميه هاجس الفكرة وشغف الذات المسكونة في طوايا فلسفة خاصة بها. فهي لا تشتغل على بنية الصورة الشعرية، بقد ما نراها تذهب إلى المعنى المباشر: دلاليا وحسيا ورمزيا، في جدالية أنيقة. فكل ما فعلت بها بيروت، في حكايات الشوق والحب والحرب، يطفو على السطح في برهة الوحدانية المتألمة والمتأملة. لا تحرجها “التابوات”، ولا تنطلي عليها الحكايات ولا الأزمات ولا الصراعات، ولا النكس بالوعود. تمضي في الإثبات الشعري. في الإثبات النثري. في الإثبات الفني والأدبي، كجزء من إثبات الذات، على قاعدة أثيلة وأصيلة. تراها تخضل بالموعود، على أنه صار من الذكريات.
الخواطر التي فاضت عن مجموعة الأستاذة نجاح الداعوق: “نبض حرف”، إنما هي جزء يسير مما يعتمل في نفسها. مثل وقت لم يأتي موعده بعد. مثل وقت يشتهي موعد الوقت. في مرآتها تنمو هذة المصادفة، بين الفن الراقي. وبين الإحساس الراقي. كانهاتصنع نوعا من الموازاة بين الرؤية البصرية، وبين الرؤيا كحلم يتخفى وراءها. فلا تراه إلا بإعمال النظر مليا، قبل أن يرتد على الرائي. تراها تقول في مبتدأ مجموعتها: نبض حرف في “الفقرة -2″، وقد جعلت الصباح متنفسا روحيا لها (ص6):
” للصباح/ رائحة/ طعم/ ولون/ قلبك المحلى/ يغمرني ويبتسم/ أنا هنا…/صمت جفوني ودهشة شفاهي/ صوت قلمي/ ونداء أناملي/ عتمة الريح/ ووهج سمائي/ جمال عينيك/ وحدة غرامي/ خيالي المتمرد/ وجنونك الجامح/ ثرثرة أحلامي/ ورقص يديك النابض تعبا “
شيئا فشيئا، تنزلق الأديبة الواعدة نجاح الداعوق في لوثة الجنون، الذي يعبر عن المشاعر التي تغص بها نفسها، والتي وصفها الشاعر نعيم تلحوق في مكان ما، من كلمة الناشر على ظهر الغلاف الخارجي الأخير، فقال: “همساتها بنات وجع. ترسم صورة للحب في خيالها فتظنها واقعا. كما أنها تعجن واقعها ليصير خيالا في مكان آخر. إنه الوجع حين يحفر في اللحم والعظم معا”. ويتابع قائلا: … نص نجاح الداعوق، ” إنني معولم”… دخلت وظيفتها في المصرف لتعيد حساباتها مع الورق فصادتها الأرقام ولعبة الضوء. فسكبت دمعها على أول الورق وآخر الضوء… إسمعوا خواطر هذة المرأة وهللوا لحبيب غائب ننتظره جميعا…”
لا يمكن التعميم، حين تقرأ تجربة نجاح الداعوق. فهي أكثر من تجربة خاصة. تجربة فردانية. كتابة تجريبية. جدالية حميمة بين النثر وبين الشعر. فهي برأيي من الأديبات التجريبيات اللواتي يحتشد الأدب على بابهن، ب”كل أدب”. ويستأذنهن بالدخول، إلى أعماق النفس، للتوحد مع الذات، في وحدة الذات والمجتمع. بل في ثنائية مشتعلة دائما: ثنائية الذات والمجتمع. نستمع إليها تقول في (الفقرة-223 ص114):
“يتهامسون، يتساءلون،/لحروفي ينظرون،/ وأنا الحالمة أقول: /ما سطرت إلا عشقا دفينا./ ما نثرت إلا حبا مستطيبا/ ما تفوهت إلا منظومة قلب المعتاد العزف على أوتار أنفاسك/ وما أنيني إلا من شدة حنيني، / سأنتظر وردة/ جديدة من إله العاشقين…”
الحب عند نجاح الداعوق، أكثر من أدب يترقرق في الجفون. هو نوع من المثاقفة اليومية مع الحب . مع الحبيب. إنها مثاقفة النوازع. مثاقفة نقاط الضعف الأنثوي. نقاط الرقة الإنثوية الخجلى، كشجرة الدفلى، حين تتدلى حمرة القلب، على غصونها. وهي لا تستدعي المناعة لأجل المواجهة، بل لإطالة عمر المثاقفة مع الرجل. مع الآخر. أيا يكن هذا الأخر. وهذا أمر شائع لدى النخب الثقافية. يمكن أن تتجلى في مواقفها. حين ترعرعت بين أفيائها. فكان لها شرف الإنتماء إلى أعرق أسرها. ولكن ذلك كله لم يدعها، تقع في أسرها ولا في إسارها. لأن نجاح الداعوق، حفظت، ولا تزال تحفظ في قلبها وقدة الحب والشعر والأدب. إتخذتها شعلة، تستضيء بها في دروبها، حين تغمرها الليالي بظلالها. تقول في ومضة من ومضاتها، (فقرة-40، ص124):
“همس الصباح/ شعاع الشمس/ ودغدغة النسيم/ من وجع الحنين/ أريد أن تقع عيناي عليك، الآن/ لأوقن معناي!!!.
كما تقول في الفقرة التالية: ” هنا هامش حب… مساحة ضوء… إبتسامة حرة، / إكتبني غزلا، حاورني عشقا/ أريد أن أسمعك، تكتب. .”
الأديبة الصاعدة نجاح الداعوق، كاتبة موصوفة برقتها، كما جاء على غلاف مجموعتها: ” راحت تخربش على جدران المنزل أهواءها وهواها. و درزته على جدران الضوء ليشاركها الأحبة الوجع. فكانت ترتب الكلام دون أن تصفي حساباتها مع الورق. فجاء رصيدها الكثير من الحب والوله والهمس الدافئ.”
هذة هي البدايات ربما، التي إبتدتها نجاح الداعوق. غير أن أديبتنا سرعان ما إتخذت لنفسها قرار الكتابة الدائمة. وهذا لعمري، لم يكن قرارا سهلا على صاحبه، لأنه يرتب عليه مسؤولية الكتابة الإبداعية ، بوجهها القداسوي الجميل. فمشت على طريق الأدب، بجدية مطلقة. برصانة مطلقة. بإيمان مطلق. ووقفت أمام نصها، تتلوه من أعماقها، كما في القداديس.
نثر ينزلق بنا إلى أعماق عالم آخر اسمه “شعر”.هناك يستعيد القاريء عزلة قدسية يفهم فيها شيئا من”ذاته”،و يعاني تشويشا “يشوش “بقية أشياء ذاته،فيسقط في دائرة السؤال الكبير:من انا؟ماذا انا؟ في بداية جديدة لمحاولة جديدة لفهم شيء من حقيقة وجودنا.
لم يتسنَّ لي الإطلاع على (نبض حرف) إلا من خلال هذه المقالة. شكراً للدكتور فصي حسين الذي أضاء على كتابات شاعرة آتية من ثقافة مدينة عريقة تضج بألوان الحداثة وتتفجر فيها تجارب فريدة خاضتها شاعرتنا الواعدة نجاح داعوق وترجمتها بحرف نابضة بالحب والفرح.
لست في وضع يسمح لي أن أناقش شعر الصديقة الأديبة نجاح داعوق فأنا كما ذكرت لم أطَّلع على كتاباتها بالكامل، ولكن ما استوقفني، من خلال النصوص القليلة الواردة في مقالة د. قصي، هو الأسلوب الفريد وغير المألوف لشاعرتنا، فالجمل القصيرة المتواترة والسياق التصاعدي للجملة الشعرية يترك وقعاً في نفس القارئ، فينتقل معها الى عالم ساحر يلامس نبضات قلبٍ يخالجه مشاعر الفرح والألم والحنبن والأنين، ويستفيق على نبض حرف.
كل التوفيق لشاعرتنا نجاح مع تمنياتي لها بالإستمرار في مسيرتها الأدبية الواعدة.
لم يتسنَّ لي الإطلاع على (نبض حرف) إلا من خلال هذه المقالة. شكراً للدكتور فصي حسين الذي أضاء على كتابات شاعرة آتية من ثقافة مدينة عريقة تضج بألوان الحداثة وتتفجر فيها تجارب فريدة خاضتها شاعرتنا الواعدة نجاح داعوق وترجمتها بحروف نابضة بالحب والفرح.
لست في وضع يسمح لي أن أناقش شعر الصديقة الأديبة نجاح داعوق فأنا كما ذكرت لم أطَّلع على كتاباتها بالكامل، ولكن ما استوقفني، من خلال النصوص القليلة الواردة في مقالة د. قصي، هو الأسلوب الفريد وغير المألوف لشاعرتنا، فالجمل القصيرة المتواترة والسياق التصاعدي للجملة الشعرية يترك وقعاً في نفس القارئ، فينتقل معها الى عالم ساحر يلامس نبضات قلبٍ يخالجه مشاعر الفرح والألم والحنبن والأنين، ويستفيق على نبض حرف.
كل التوفيق لشاعرتنا نجاح مع تمنياتي لها بالإستمرار في مسيرتها الأدبية الواعدة.