“ليالي القاووش” تراجيديا التمرّد عند الشّاعر عبدالله شحاده
المصدر: “النهار”
بقلم الكاتب يوسف طراد
-×-×-×-×-
داخل قاووش الظلم، انسكبت معاناة شاعر الكورة الخضراء الأستاذ عبدالله شحاده، من جرحٍ نزف سيولًا من الكلمات المتمرّدة المعذّبة، جمعتها إبنته الأستاذة ميراي شحاده في كتاب بعنوان “ليالي القاووش” وصدر ضمن منشورات منتدى “شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي”.
هل يكمن الألم في السّجن نفسه، أو في الكتابة عن الحياة داخله؟ إنّ تراجيديا الكتابة التي كتبها شحاده، انعكست فيها آلام السّجناء السّياسيين. وامتدّت مع مآسي الحريّة استمراريّة قاتلة، لتختصر مرّة واحدة كافية، أزمة المفاهيم العامّة، القاطنة في دهاليز التّعنّت السّياسي. ولتجسّم بكلّ حدّة، وعفويّة، وبساطة، مأساة الصّراع الحقيقي المستتر بالوطنية المزيّفة، هذا الصّراع الحاصل بين الحريّة بمفهومها الواضح، وبين العبوديّة التي تُفرض من محترفي السّياسة من النّفعيّين والمتسلّطين.
المرأة الجليلة التي كانت تظهر للسجين السّياسي الشّهير، “أنيكيوس مانليوس سيفيرينوس بوئثيوس” في سجنه، والتي كانت تمثّل تجسيدًا للفلسفة، لم تفارق عبدالله شحاده قبل، وخلال، وبعد سجنه في قاووش قبّة النصر طرابلس. فإذا كان “بوئثيوس” قد أُعدم عام 523 م، بعد أن سطّر كتاب “عزاء الفلسفة” ومات جسده واستمرّت روحه بكتاباته. فإنّ شحادة قد أُطلق سراحه بعد ثبوت براءته، وكان جسده قد نال نصيبًا من العذاب المضني، لكن روحه بقيت أبيّة. وإذا كانت حقيقة الأمر أنّ كلّ شيء يسير في وتيرة واحدة داخل ثنائية تحوي الإنسان وخباياه: جسدًا، وروحًا، فقد قدّم لنا شحادة، تفسيرًا للعلاقة بين الجسد من جهّة، والروح من جهّة أخرى، عندما قال في الصفحة 63 من كتابه: “فجسد الشّاعر لا يتحمّل كروحه الجبّارة مثل هذه الأعباء الثقيلة”. وقد أعطى هذه العلاقة بعدًا فلسفيًا مهمًا، ووضعنا أمام حقيقة الجسد الذي ينشأ ماديًا، بعد أن تتم عملية التّواصل والوحدة بين المرأة والرجل، وتحل الروح داخل كينونة هذا الجسد لتتحوّل إلى وجود دائم في مكوّناته. وهنا في كلام شحادة، كان الصّراع واضحًا، بين رغبة الجسد في الخضوع، ورفض الروح للواقع، وقد فرضت الروح شروطها، وتمرّدت على رغبات الجسد، وبقيت جبّارة.
رغم أنّ الكاتب، لم يُوضع في سجنٍ انفرادي، هو المتعلّم، والمثقّف، والشّاعر، ومربّي الأجيال. فقد وجد نفسه بغربة عن جسده في وحدة روحيّة، وتقصّد التّجوال معها في شعاب المآسي، مخترقًا الباب الزّمني للقرن العشرين بدويٍّ مأساويٍّ، يشبه دويّ اختراق سرعة الصّوت. فقد انسحبت تدويناته عن الحياة في القاووش والتي دوّنها في ستينات القرن المنصرم، على الرّبع الأول من القرن الحالي، مع استمرار العبوديّة الاختيارية، وتذويب البقيّة الباقية الحرّة من الأحرار في مفاعيلها، وهذه مقتطفات من كتابه صفحة 68: “قضيت النّهار في وحدة روحيّة خفّفت عن كاهلي عبء الظلم الثّقيل، ومنحتني غبطة علويّة بدّلت مقاييس الآلام في نفسي… فأشرفت منها على حضارة القرن العشرين، فرأيت العبيد البيض يتماجدون في عبوديّتهم… ورسل الغواية والفجور يختارون أشدّهم فجورًا وغواية لمقام القيادة والزّعامة، وقطعان البشريّة حوله تهلّل وتكبّر، تخر وتجسد ذليله صاغرة”.
إذا كان صنع الله ابراهيم، قد كتب في الجزء الثاني من كتابه “يوميّات الواحات”، عذاباته خلال فترة اعتقاله في سجن الواحات، وقد كُتبت هذه اليوميات على أوراق لف السجائر، وخُبِّئت، وهُرِّبت من السجن، ومن خلالها تمكّن قاطنو السجن الكبير من التعرّف على حياة العذاب في السجن الصغير، ف#عبد الله شحاده قد حفظ يوميات القاووش في وجدانه، ودوّنها بعد خروجه لحظة بلحظة: من الوشاية به، إلى مجريات التحقيق التي استندت إلى الباطل، إلى شبه الطعام المتناول، والنوم المزري، وألم الضرب بالسياط. دوّنها كأنه حاسوب لم يغفل أي تفصيل صغير. وأخرجت إبنته الأستاذة الشاعرة ميراي أوراقه إلى الحريّة، كي تكون هداية لمن يعيش حريّة مبتذلة، مهدّدة وجزئيّة، لكنها عاديّة بالنسبة للّذين يعيشونها برضى وسط التعسّف، والبؤس اليومي والخطابات المشوّهة، ومنظر الفقراء، وعجز المجتمع، وقمع كلّ قوّة حيّة تشكّل تهديدًا للمنظومة الحاكمة، كما قُمعت ثورة السابع عشر من تشرين.
ما هي الروح الراوية تجربة الاعتقال؟ لقد مسْرَحَ الكاتب ذاته، وجعلها ذاتًا مضاعفة، ودوّن عذاب الإرادة التي تلقّت الضربات، بصدق أدبيٍّ فنيٍّ، تضافر مع تجربة اعتقال مريرة، أنتجا كتاب “ليالي القاووش”. فالشاعر الكاتب قد اشتغل على الحكمة الكامنة في فلسفة المفارقات، حيث جمع في الكثير من نصوصه بين الضعف الجسدي والقوة الإيمانية، وبين الماضي والحاضر وكان ينتصر للأمل القادم من المستقبل.
هل تنتفي الغربة في السجون، وفي الفكر حروف انتظار الحريّة، والفرحة الموعودة أوردة مفتوحة، والأماني لا تكف امتدادها إلى أقصى ردهات الحلم؟ الجواب المفاجأة عند نهاية قراءة كتاب “ليالي القاووش”، علّه يبقى للورق، حريّة استقبال حبر التحرر من عبودية الأفكار المفروضة.