كتبت الإعلامية والناقدة الموسيقة هالة نهرا مقالة نشرتها جريدة ” الأخبار ” اللبنانية في رحيل الفنان اللبناني / العالمي سامي كلارك .
هنا نص المقالة :
سليل الزمن الأنيق…خلطةٌ إبداعية صالحت القوّة والرهافة!
مَن يتذكّر سامي كلارك العصيّ على النسيان والتلاشي، يستحضر أغنية «غرندايزر» أوّلاً. عند استعادة هذه الأغنية سابقاً أو راهناً، تشرئبّ أعناق الأرواح العطشى إلى الشجاعة والإقدام والخلاص، وتتأهّب سواعد النفوس كأنّما لتتماهى مع جمال «البطولة» الناصعة و«البطل» الأخّاذ أو لتناصرهما في زمنٍ يعزّ علينا أن نصدّق فيه أنّ البطولات التي كنا نؤمن بها في طفولتنا لم تختفِ وإنما ضَؤُلت كالنور في مرحلةٍ شائكة مدجّجة بالانهيار تُماثل الغروب في لبنان تحديداً، فيما الصوت هذا أبى إلاّ أن يستبسل مدغدغاً الوجدان.
سامي كلارك سليل الزمن الأنيق حيث لم تكن الأحلام الكبرى الفيّاضة مقتصرةً على خيال الصغار وآمالهم، رغم ركوب المخاطر في لجّة الأحلام هذه، والتعقيدات والانقسامات ثمّ الويلات.
رفيق صباحات الشاشة وأماسيها داخَلَت حنجرته أفياء «البطل» في انسحابها من معركة الحياة، وبنقائنا الطفوليّ نريد الآن أن نقنع أنفسنا بأنها استراحة محارب، حتّى لا تتبخّر حصون الطفولة مع ملاذ العاطفيين وكل الحالمين بعالَمٍ أفضل على هذه الأرض.
لمع سامي كلارك نجماً في «غرندايزر» وقد أشرَفَ على تسجيلها الفنان الكبير زياد الرحباني حين كان مراهقاً كما قال موفّق شيخ الأرض ( 1918/ 2021 ) الذي أسهم في إنجاح المسلسل الكرتونيّ في العالم العربي، وهو مؤلّف كلمات الأغنية التي «أصبحت الأغنية الأولى في عالم الأطفال» على حدّ تعبير موفّق شيخ الأرض في إحدى المقابلات الإعلامية. وقد صدقَ في قوله، لا سيما أنّ الأغنية هذه عابرةٌ للزمن والأجيال في المدى العربيّ، علماً بأنّها نصبت خِيامها في الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية.
في رصيد كلارك أكثر من 700 أغنية ومراوحه التعبيرية واسعة وزاخرة، تخاطب العالم بأسره. تتقافز أغاني سامي كلارك أمامنا الآن بدءاً من «موري موري» باللغة الإنكليزية (ألحان إلياس الرحباني) حيث يتجلّى كلارك في لونه وملعبه الموسيقيين اللذين يليقان به وحيث يستلّ حساسيته الفنية البيّنة… مروراً بـ«لمن تغنّي الطيور» حيث تجرفك رمال الرومانسيّ والعاطفيّ الشريف، وتتعرّف إلى تغريدها المجنَّح وشَدْوِها «لمن لا يُطفئ النجوم» و«لناصر المظلوم»… وصولاً إلى «الملعب والغول وسامي»، و«لطيفة» حيث تتبدّى خفّة الظلّ في التعبير فنياً عن الخيبة بدلاً من جرعات التفجّع الزائدة، و«جزيرة الكنز» حيث كان كلارك شاهقاً وهائلاً وعظيماً في أدائه المتقن المتأرجح بين الأوبراليّ الطفيف غير المكتمل من جهة، والغناء الحديث في التصنيف الأكاديمي المحلّي من جهةٍ أخرى، في خلطةٍ إبداعية تتجاورُ فيها سطوة القوّة والرهافة…
على هامش نتاجه العالق بالأذهان في تنوّعه وتراكمه وتشعّباته وفي صميمه، تجدر الإشارة إلى أنّ تعاون كلارك مع إلياس الرحباني تدثّر بوقْعٍ فنيّ خاص وشرّع أبواباً رحبة له وأمامه.
في المقابل، كان صوت كلارك حاضراً في احتدام السهر وحفلات الشبّان والصبايا والمتصابين الأبهياء وعشّاق الحياة في لبنان في حقبةٍ محفوفة بأذيال رونق الذهب التي استولدت للمزاج والمتعة والحركة أيضاً الأغنية الخفيفة الإيقاعية الراقصة التي تلامس الشرقيّ موسيقياً مساس الطيف «قومي تنرقص يا صبية».
تاريخٌ وقامةٌ بوزن كلارك لا يُختصران ولا يُختزلان. سامي كلارك صوتٌ عريضٌ دافئ بل حارّ أحياناً ومطواعٌ لقولبته وتشكيله في الرؤى التلحينية، وحنونٌ متدرّع بقوّة جاذبة، وقادرٌ ومتمكّنٌ في الغربيّ في أفلاكٍ عدّة ــ ليس البوب آخرها ـــ وكاريزميّ في امتداده وَرَجَّته واهتزازاته وصولاً إلى الـVibrato الواضح، وصلبٌ ورقيقٌ معاً أو بين حين وآخر. هكذا يبدو كلارك في خلاصته.
في اتصالٍ مع الفنان أنطوان الصافي، نجل العظيم وديع الصافي، قال لنا إنّه كان يحبّ صوت كلارك واختياره للأغاني، وإنّ صوته غربيٌّ «أجشّ وجهوريّ ورجاليّ بامتياز» على حدّ تعبير الصافي الذي رأى أنّ حنجرته تصلح أيضاً للغناء الأوبرالي إلى حدٍّ ما. وقد ارتأى الصافي من تونس أن يعزّي عبر هذا المقال «عائلة كلارك الكريمة والجمهور وجميع الذين يقدّرون فنّه في لبنان والعالم العربي والعالم، لا سيما أنّ كلارك كان الوفيّ المؤدّب المحبوب الذي تحلّى بوداعة الخُلُق».
في وداع سامي كلارك الأخير، ينتصب ظلّه وأثره ملوِّحَين بالضياء. ببشاشة المتوارين الدِّماث يغنّي صاحب «قلتيلي ووعدتيني» للانهاية المندّاة على كتف النغم الهارِب.