يد الحجر
إلتمس الحجر يده هذا المساء. شد عليها. وجدها قد جفت. غارت عروقها وراء الماء. رحلت منى السعودي وراء غيمة. رأيت الغيمة، ترمي لها إنشوطة. تعلقت بحبال المطر، وطارت وراء الحجر.
مد الحجر يده هذا المساء، لمنى السعودي. حملها معه وطار.
طيلة ستين عاما، كانت منى السعودي، تصنع للحجر أجنحة. تسكب عليه الماء. تجعل الماء يذهب في عروقه. تسقيه من عينيها حتى يرتوي. ثم تأمره أن ينهض ويطير.
كان حجر منى السعودي، يخرج من يديها مثل طائر. مثل حدقة نسر، مثل ريشة تخف على وهدة بعيدة، تستنشق العطر.
رحلت منى السعودي هذا المساء. غادرت يدها فجأة يد الحجر. عويل الحجارة في دارتها. عويل شارع الحمرا. عويل الأيادي التي تلوح لها، امام بوابة عتيقة. أمام درج عتيق. أمام دارة عتيقة لم يبلها الدهر، بإزاء الفناء الخلفي لمصرف لبنان. بإزاء ذلك الزاروب. زاروب الطيب العتيق، مثل حجر الطيب الأسود، الأبيض، القشيب الأنيق.
أمضت عمرها هناك، تطحن الصخر. تصقل الحجر. أفنت يدها العروس، على الحجر، حتى أنبتت للحجر يد.
ما هذة الجلمودة التي حطها السيل. حطها المد. في ذاك الزقاق العتيق. في ذلك الزقاق الجميل خلف المصرف المركزي، في شارع الحمرا، منذ البدايات.
كلاهما يشهد على المرحلة: جدار دارة اللبنانيين الأنيقة، وجدار دارة منى السعودي العتيقة. والحجر الصقيل بينهما. الحجر المشوق. الحجر الحديث. الحجر العريق.
منى السعودي، جلمودة حطت على وهن في شارع الحمرا. توقظ الدفء في قلوب الحجارة. في القلوب الحجارة. دارة صغيرة ما تغير شكلها طيلة ستين عاما. دارة صغيرة ما تغيرت أحشاؤها. ظلت لستين عاما تفيض بالحجارة. تنفح من يدها يد الحجر. تذهب به إلى العالم. تطير به إلى المتاحف. تشرع منه قاربا يحملها خلف المحيطات. خلف البحار تبحث عن قارة تسكنها. تبحث عن قارة تليق بها. تجعل من الحجر طائرا، كوة، فضاء، معنى معنى. أو عمود سماء، حتى لا تسقط السماء على أهلها. حتى لا تهوي النجوم عليها. حتى لا يتجهم الكون، بعد فقدها.
منى السعودي، نفحت من آهاتها، منى الحجر. منى أهلها.. ظلت على صمتها. تطوي صمتا أظلها. تحت ظل الدارة الأنيقة، تفيأت دارتها العتيقة. تتشهد الحجر. تتهجى الحجر تقرأ حروف الحجر، مدّ البصر.
أنيسة المجالس كلها، منى السعودي. أنيسة الزقاقات كلها، في بلدتها. بلدة الحمرا. شارع الحمرا. أنيسة أرصفة الليالي المعتمة، منى السعودي. رحلت عن البلاطات بعينيها.. بلاطات تلمستها بعينيها، تصنع منها جمال الطريق، جمال الروح، وجمال النظر.
جلمودة الحي في الحمرا، رحلت يوم البارحة. تركت يدها في يد الحجر. غادرت إلى السماء، على ظهر حجر.