“صديق الطرق”
لا أحب المكوث في المنزل، إلا لعمل أعمله. حتى ولو كان من نوع الزيارات المرتبة معي. أو من نوع الزيارات المفاجئة. البيت يثقلني بسقفه. ويعيقني بجدرانه. ويكبلني بأبوابه ونوافذه وعتباته. ويحشدني بما يحتشد فيه، من الأساسيات واللوازم. والعفش الدهري المتراكم. ومن “لزوم ما لا يلزم” أيضا.
الذهاب إلى البيت، مثل الذهاب إلى الوظيفة. لا يكون الذهاب إليهما، أو الخروج منهما، إلا على “تكة” الساعة. أي بالإنضباط الكلي في المواعيد. والإنضباط الكلي في العمل. من هنا التشابه، بين العمل الأهلي المنزلي، وبين العمل المجتمعي الوطني.
ومقياس الشغف بالعمل، هو أن يأخذه صاحبه، من وجهيه: وجهه الأهلي ووجهه الوطني. ولا يتحقق ذلك، ما لم ير الوطني، أهليا. وما لم ير الأهلي وطنيا. وآنئذ يحقق صاحبهما شغف وشرف العمل، فلا يغادر بيته، ولا يغادر عمله، إلا بعد “تكة” الساعة.
خارج الدوام المنزلي. وخارج الدوام الوظيفي. أشرع نفسي لأكون صديق الطرق. أتبصر فيها من مشاها قبلي. وأتبصر فيها من سيمشيها بعدي. أتبصر فيها من يصاحبني. من يحاذيني. أتبصر فيها من يحتشد بها. ومن تحتشد به. فالخارج عندي، هو كل هذة الطرق. وأما الداخل، فهو في قرارة النفس عندي: المنزل والوظيفة. والطرق المنتظرة صحبة الطرق.
لايكون صديق الطرق، إلا من جنى من عمله، راحة البال. إلا من جنى من عمله السكينة والإطمئنان. إلا من إطمأن على عمله، في المنزل كما في الوظيفة. يخرج من بيته، من عمله، على خير ما يرام. وإلا فما معنى، أن تكون صديقا للطرق، تخرج إليها، وأنت في لبس من أمرك. في إلتباس. تتساءل ما إذا أنجزت كل عملك، وربحت الشغف به مدى الحياة.
لا يخرج المرءُ ، إلا كما يخرج الحديد من الفرن. آنئذ يحق له أن يكون صديق الطرق. حديدا محمى، صهرته نار الفرن. أكلت كبده، أو بعضها. أكل بنار الفرن. يأخذ قسطه من الإبتراد. حتى يعود مجددا لقسوة العمل. حتى يعود للفرن من جديد.
أجمل ما في الطرق، أن لها نكهة المنزل. لها نكهة العمل. فيها يخلع المرأ قلبه في الدروب. يجدد نفسه بعطرها. يجدد نظره. يجدد بدنه. يجدد حلمه وطموحه يجدد أمله. لا تجديد في الحياة ، ما لم تخرج للتو من الفرن، مثل الحديد، لإصطحاب الطريق. تلك الطريق المنتظرة على الطريق. تحمل على ظهرها حقيبة مدرسية. بيدها كتاب. بيدها صحيفة يومية، أو مجلة شهرية. أو قصة منسية “تحت أشجار الزيزفون”.
كل الطرق، كانت تؤدي إلى الكتب. عند موعد الإمتحانات، يطل موسم زيارة الغابات. لا تعود موحشة مع “سلة” كتب، أو مع طاقة من ورق ومحفظة. وزوادة للطريق، من الصباح حتى المساء.
للتو من بابي، لا تغار طريق من طريق. كلها من صحبة قديمة. من صحبة جديدة. لا تذكر حتما زمن صحبتها. ولكن تذكر نكهتك، كل هاتيك الطرق.
طريق الجنائن والبساتين. طريق الليمون والزيتون وشجر الدلب، والزنزلخت والدفلى والعريشة التي تنتشر مثل العباءة المقصبة. وسلال الفل. وتلك شجرة اللوز تفتح أزرار قميصها الأبيض للربيع الذي يسرع إليها قادومية. كم هي تغار من صحبة الطرق. يقف العشاق تحتها. يقصون حكايات القمر. وهاتيك الشواطئ والمسابح. وهذا الرمل الحار والحصوات الموجعات تحت الأقدام النيئة. كلها تأخذالطريق إليها، حين تنتظر الحلم.
ما نسيت يوما عدد الفراشات التي كانت تقدمتني إلى الربوة. وحقول القمح تنبسط. زهر الفول. وأجمام العدس، يخبئ في عبه طيور السمن. يقف فوقها الكلب يتلمظ. يترنم بذيله، أنه “وجدها”. تهرع منا إلى مأمنها في الجلول البعيدة. تراها سلحت علينا!.
عما يحدثني النهر، حين عدت إليه، كما يعود الصديق ألى الصديق. وقفت عليه: “يبكي ويضحك، لا حزنا، ولا مرحا”. كنت أعد الحصوات التي كشفت عن ساقها تبترد. تغامزت تحت شمس الظهيرة، على “ديك النهر”. وقف على صخرة عاندته. لم تصدق حكايته. أنه صديق الطريق إلى الماء. سوف يغمس منقاره. ويبل جناحه. ويغسل عكازتيه. ثم يعقر عجيزته، ويطير إلى كهف الشمس. ينتظرها هناك حين تؤوب للنوم.
صديق الطرق، كان ذات مساء، حين خرج يتبع أثر أقدام صغيرة، في الزقاق. كان عقده قوس قزح لعينين صغيرتين. كانت الشمس تضرب يافوخ كل ظهيرة. نظر إلى الدرج الطويل، يطال الغرفة الصغيرة في الدار الواسعة. يقف على بابها بأدب. ينتظر. ماذا تقول الأقدام الصغيرة إلا عطر الوحل. والحذاء المحنى، والكف التي ترتعش من شدة البرد. وقد فاض النهر روحه ليلة البارحة. جرى دمه في الزقاقات الكبيرة والصغيرة. من شدة العصف والقصف. من وعورة ليل المدينة. لم تبق إلا تذكارات عالقة في العينين. عيني اليوم الذي يجهش بالبكاء على فراق سحيق. وشال أبيض سال في الطريق.
عهد مؤاخاة الطرق، من عمر طفل تسلق الشباك. يرى الطريق السابحة. إذ هي تعرش في الجبل البعيد. تستقبل “البوسطة الحمراء”. تستقبل “البوسطة الزرقاء”. و”شحن الخضار ” من الحقل. ذاهب إلى سوق المدينة على شاطئ البحر. هديره ينفث أسراب الطيور. تستريح في جلسة الصديق للصديق. كم بلغ من العمر، حين بكى نبعين غار ماؤهما، حين غار العمر في الماضي البعيد.
محا القرن، جميع الطرق. قتل جميع أصدقاء الطرق. أرداهم واحدا واحدا، على المفارق. على المنعرجات. خلف حيطان الدعم والدشم المساندة. فجأة كانت الطلقات تزغرد للقتيل. كان الرصاص ينهمر على ذيل العروس. هرعت تلم التاج عن الطريق. هرعت جميع الطرق تلملم خلانها. سفحت دمها على أجسادهم. لونت لفائف التراب. لفت نعوشا في الطريق. صديق الطرقات قتيلا، قتيل في الطريق. محا القرن صديق الطرق. أغلقت الطرق أبوابها على أصحابها. ما عادت تؤدي إلى التلال. ماعادت تؤدي إلى الجنائن والحقول. ما عادت تؤدي إلى الينابيع. أغلقت الطرق أبوابها في وجه الصديق. خلع قلبه على الرصيف. على كتف الطريق. جثا على ركبتيه. رافعا يديه، بتهمة الشوق.شوق صديق الطرق، لا يجرؤ على باب بيته. أغلق في وجهه. همى ماؤه على الدرج. يندب صديق الطرق.