في حياة كل منا بحار متلاطمة الأمواج. أمواج تبحث عن شاطئ سعيد ترمي عليه زبدها والمحار. وأمواج سمر حنين إلى أعماق ماض بلا انتهاء، مغلف باشتهاء. من غاص فيه مفقود، إن لم يكن يجيد السباحة، عكس التيار، كي يصل إلى شاطئ الزمان.
صخور الشاطئ تنتظر أمواجي. ولكن مساري الواقعي يتجه إلى العمق، إلى حيث تغرق الأفكار، كي تكتشف الذات الكبرى، لحظة السفر.
هذه أمواجي…بقايا من ذاتي التائهة بين الأنا والآخر. تكشف لأول مرة عن أحلامها، وآلامها، وقلقها اللامحدود.
….” أمواج سمر ” سلسلة على حلقات , بقلم : سمر يوسف الخوري..
هنا الجزء التالث تحت عنوان ” هوشلة ” الطفولة:
أمواج سمر ( الجزء الثالث)
“هوشلة”
الطفولة… عالم من الأحاجي. موكب من الألغاز يحملنا إلى غد بعيد، بلا هوامات..
بدأت أحداث قصتي هذه، ليلة عيد القديسة بربارة. تلك الليلة التي يتم فيها وضع الأقنعة على الوجوه، والسير في مواكب، من بيت لآخر ونحن نردد: هاشلة بربارة والقمح بالمغارة…
لم أكن أعرف من هي بربارة “الهاشلة” بين الحقول. ولكني أحببت ما يجري من مراسم تصحب تلك الليلة، فقررت أن “أهشل” من البيت، بلا زاد، وأن أبحث عن المغارة التي فيها القمح “المسلوق” مكتفية بتناوله غذاء يوميا.
كان الطقس ممطرا، تلك الليلة، فارتديت ثيابا صوفية سميكة، ووضعت على رقبتي شالا صوفيا، يقيني البرد، وانطلقت في ذلك الليل الدامس.
مضت ساعتان وأنا أتخبط في ظلمات لا نهاية لها. ابتعدت كثيرا عن البيوت. تلاشت أضواؤها ألشاحبة. وكان ضوء خافت يسيطر على عينيّ: الهوشلة.
أمر غريب يحصل لأول مرة. فتاة في الثانية عشرة من العمر تجري وحيدة في ليلة كانونية، في غابة، بحثا عن مغارة.
والأسوأ في حالها هذه أن أحدا لم يعرف بسُراها.
مضى وقت على إسرائي نحو المجهول، قبل أن أجد كهفا تحيط به أجمة وصخور عالية.
يا لحظي الجيد، صرخت . لقد وجدت المغارة. وسأحيا فيها إلى الأبد.
دخلت المغارة بلهفة. كان الظلام دامسا. سكون غريب يسيطر على المكان. أتكون بربارة الهاشلة قد أطفأت القنديل ونامت؟ سأوقظها. أطلب منها قمحا، ونسهر إلى الصباح.
صحت بأعلى صوتي: بربارة، استيقظي يا هاشلة. فردد الصدى: شلة …شلة..وعاد الصمت من جديد.
شعرت بالخوف من الصمت.حاولت أن أخرج من الكهف، ولكن المطر بدأ ينهمر بغزارة، مصحوبا برياح غزيرة، وأصوات غريبة كأنها عزيف الجن.
مطر في الخارج. وأمطار رعب تتغلغل في كياني. كيف لم أقدّر هذا الموقف من قبل؟ كيف أقضي ليلتي وحيدة في هذا الكهف الرهيب؟ دويّ الرعد كان يهز أرجاء الكهف، كأن السقف يطبق علي. خفت أن تتجدد مأساة أهل الكهف معي. ولكني كنت وحيدة . لم يكن معي أحد حتى كلب.
أحسست بدبيب يمر قربي. أصابتني قشعريرة مخيفة.أتكون أفعى تمر قربي، أم حشرات من القرون الغابرة أتت لتنقض علي وتلتهمني؟
أفكار وأفكار كانت تراودني. كنت أرى في الظلام أشكالا غريبة، وحوشا على شكل تنين، أو غول، أو ذئب مفترس يفغر فاه ليبتلعني.
خشيت أن أبكي فتسمع الأشباح صوتي وتهجم علي. كنت أبكي بصمت.
أهذا هو ليل الموت الذي يطوي عمر الإنسان؟
أهكذا تنتهي أمانينا في هذا الوجود، فنمضي كأننا لا شيء, خرق ممزقة بلا هدف، أو رجاء؟
لم أجد من أستنجد به سوى بربارة الهاشلة. ناجيتها من صميم خوفي. طلبت منها أن تنقذني، لأن ليس لي أحد سواها.
وفجأة، رأيت شبحا يقترب مني. طيفا على رأسه هالة نورانية. كانت فتاة في العشرين من العمر، تقريبا.
قالت لي : لا تخافي يا ابنتي، أنا القديسة بربارة. جئت لإنقاذك. وهذا كوب من القمح المسلوق، تأكلينه، قبل أن أعيدك إلى منزلك.
عاد الاطمئنان إلى قلبي. راودني شعور بسلام داخلي غريب. شكرت الله على إنقاذي من خوفي.
وبعدما انتهيت من تناول القمح الذي لم أذق مثله من قبل، قادتني بربارۃ إلى بيتي.
كنت كأنني أطير. لم أشعر بالمطر، ولا بالظلام المحيط بي. كان شعاع من نور يقود خطاي، إلى أن وجدت نفسي في سريري.واختفى طيف القديسة.
يا له من حلم غريب! كان مخيفا في البداية ولكنه انتهى بشكل إيجابي.
يا للأحلام كيف تسيطر على مخيلات الأطفال، فتصوّر لهم الحلم حقيقة!
يبدو أنني كنت أستمع إلى حكاية أبي الكاهن، عن القديسة بربارة، فغفوت، ورأيت ما رأيت.
وفي الصباح، قررت أن أروي حلمي لوالدتي، حين دخلت الوالدة مسرعة وقالت بلهفة: أين كنت يا حبيبتي، بحثنا عنك الليل كله ولم نجدك. سأتصل بأبيك وخالك اللذين ذهبا منذ ساعات للبحث عنك، في كل مكان.
ارتعشت لدى سماعي كلام والدتي. غمرتها بذراعيّ، وأنا أذرف دموع التوبة والاستغفار.
سمر ي. الخوري