الجزء 6 – سلسلة ” انعكاس “:
للكاتبة لارا ملّاك : إلى زيوس أب الآلهة
من عمق الثّلج أنطقُ الآن، مع أنّي المؤمنة بأنّ لا قاع للثّلج. لا نهاية لهذا التبلّد، لهذا التجمّد الّذي يكون شيئًا عظيمًا ببساطةٍ لأنّه لا شيء. هو الغياب بأوضح تجلّياته.
والبرد مجرّد تعويض. تعويضٌ عن النّار الّتي حدّثتْكَ كثيرًا حتّى انطفأت غيرَ آبهة.
أكتب لكَ وأرفع هاتفي المحمول أضيء به وجهي، وأنا على درايةٍ بأنّكَ مُطفَأُ الوجهِ في مكانٍ ما أو في لا مكان. هذه رسالتي ألقيها في وجهك لعلّي أعرفُ قليلًا عن الأشياء الّتي تركتُها بمحض إرادتي، لكنّني لا أستطيع كبح رغبتي في التسلّل إليها من عينيك.
لا بدّ أنّك تعلم، يا سيّد الآلهة والبشر، أنّني هجرتُ الرّجل الّذي أحبّ بلا رحمة. وتعلم أيضًا أنّني مضيتُ عنه لأنّه نصفُ إلهٍ، وبلا أيّ جسد، ولأنّكَ هجرتَني يومًا، ولم تعدْ.
قفزتُ عنه كما يقفز عدّاءٌ عن حصاةٍ، لا لشيءٍ سوى الخشية على خطوته، أو على طريقه، أو على كاحله. هجرتُهُ، وصدّقني يا زيوس، ليس عسيرًا أن تتخطّى نصف إلهٍ، إن كنتَ الخبير في غضّ الطّرفِ واليدِ عن الإله الكامل.
قلتُ له كم أكره الغموض الدّاكن الّذي يشبه ليلَك، وكم أكره تبديل الكأس حين لا بدّ من كسر الزّجاجة. وقلتُ له أيضًا إنّ عنقي أرفع من قبلةٍ وأعرض من قلادة، وما بقي من المرآة أعظم من كسورها مهما ضاقت. انتظرتُه، كما انتظرتُكَ، كي يناور، وبقيتُما صامتَين.
على الرّغم من كلّ ذلك، لا أراسلُكَ الآن كي ألوم شيئًا فيكَ. أكتبُ فقط كي أسألَكَ عن السّماء، عن فراغها الهائل. قالوا لنا مرّةً إنّها مليئةٌ لكنّنا لا نرى فحواها، وإنّ عيني قاصرةٌ. ما عرفتُهُ بعد عمرٍ من الخيبات والسّقطات، أنّ الهباءَ لا يرحم، وأنّ الرّمش فوق جفني بصيرٌ بنفسه أوّلًا مهما فاتته الرّؤى، ومن أبصر نفسه امتلأت سماؤه.. لكنّني عازفةٌ عن الهباء الّذي بعْتَني إيّاه، ولن أندم على ذلك.
من سمائكَ قلْ لي كيف تطالعُكَ أسطحُ المنازل، كيف تُبرزُ لكَ وجهَها ووجهتَها، وكيف يبدو لكَ المطرُ الّذي يخرُّ رطبًا على النّوافذ ولا يرويها. قلْ لي كيف ترى النّافذةَ أعمدةً من زجاجٍ قصير النّظر. اركُنْ إلى زاويتي، وانظرْ معي. الزّجاجُ في ذلك البيت لمّاعٌ ولمّاحٌ، وأنا أفتح أذني سعةَ بيدرٍ، وأنتَ هناكَ تدوس السّنابل.
قالت لي امرأةٌ مرّت صدفةً بيني وبين النّافذة إنّكَ هجرتَها أيضًا، فقط لأنّها امرأة. هرعْتُ مسرعةً إلى المرآة تفحّصتُ جسدي جيّدًا، وجدتُني في القصيدة كاملةً إلّاكَ، ولهذا خلعتُ لكَ صورتي وخلدتُ إلى النّوم.
زيوس..
بقيتُ من أجلكَ أعمارًا فوقَ التّراب أحرسُ لكَ سماءَكَ، وأعتذر إلى الهواء كلّما تركتَه للعاصفة يتيمًا. نظمتُ المشاهدَ قصائدَ لعينيكَ، أقفلتُ البحر على ذلك الإله الصّلب، ونكرتُ اسمَهُ، وانهمرتُ بحرًا في بحرٍ أناجي عينيكَ كي تقدح لي نارًا خالصة.
زيوس، لماذا أشعلتَ النّارَ بوجهي؟ كانت ملامحي عتباتٍ بلا أجراس، كي أحبّكَ بسكون. أحرقتَني كثيرًا حتّى تقيَّأتُ وجهي ككلّ النّساء.
أتذكرُ ذلك الحجر الّذي أخفى عنكَ نملةً؟ لم ترحمه، ولم تكفَّ عن رجمه، لكنّ النّملة ما زالت فيه حتّى صارت من صلب معناه. رجوتُكَ يومَها أن تتركَ لي حجرًا واحدًا أختبئ فيه من شمسكَ، ومن لهيب الصّيف حين ظنَنْتَ أنّكَ ترعاني من البرد، فتركتَني في الطّريق بلا فصلٍ، وبلا موسمٍ. ها أنا أبتكر فصلًا خامسًا كي لا أبقى عاريةً أمام الوقت، وكي لا أشيخَ يتيمةَ الشّجر. ها أنا أطبخ في القِدْرِ المربّع أوراق شجرةٍ لا تعلمُ إن كانت وارفةً أم ناضجةً أم يابسة. حين أغضب أشعل النّارَ بقوّةٍ كي أبني موسم اللّهب، ومرّةً أصير أبلدَ من أيّ حريقٍ، فأصنع موسمًا من كسلٍ عجيب.
زيوس حبيبي!! لا بأس لو جعّد أبدُكَ وجهي، ولا بأس لو توهّمنا السُّرْمدَ معًا وساوَمْناه على آخر ابنٍ لنا. الأهمّ أن تطلّ برأسكَ قليلًا حتّى ترى أبعد من النّافذة، انظرْ ولو مرّةً إلى الدّاخل. في الدّاخل ليس لكَ هيبة السّماء، ولا جبروت الهواء. في الدّاخل لا بدّ أن تكون وسادةً كي يتّكئ القلبُ عليكَ، والقلبُ الّذي لا سند له لا يخشى شيئًا.
انظرْ إلى الدّاخل، سترى كيف يربّي النّاسُ في غرف معيشتهم عصفورًا قطفوه من سمائكَ. قد يضعونه في قفصٍ مُحكَمٍ آمنٍ، وقد يعدّونه وجبةً شهيّةً على العشاء. ولن يكون لكَ الوقت الكافي كي تمنع عمره، أو تطيله.
أعلم أنّك ولدتَ بلا مرآةٍ، ولم ترَ نفسَكَ أبدًا، واعلمْ أنّني رأيتُكَ أيضًا في الكتب فقط. لا أدري من نصّبَكَ حبيبي، ومن كتب لغتكَ في كلّ موعدٍ، وفي كلّ نزوةٍ، وفي كلّ طريق.
ما زلتُ حتّى الآن أذكرُ حياتنا في الغابة قبل أن تلفظني خارج طفولتِكَ، وقبل أن أنكركَ. كنّا معًا نصفَ إلهٍ، ونصفَ جسدٍ، ونصف سراب. فاضت بنا الأرضُ حتّى ضاقت. سرقتُ منكَ الخيالَ وفتحتُ بابَ المعنى، وأنتَ بلا غلالٍ، وبلا مفتاح. ما يحزنني حقًّا أنّكَ لن تطير حرًّا، لأنّكَ لم تجدْ بعدُ سجنَكَ كي تجد منه فرارًا. أنتَ مجرّدٌ، ليس كغيمةٍ، بل كسحابةٍ لا تتقن المطر، ولا مجاز اللّغة. أنت تجريدٌ لا ينظمُه شعرٌ، ولا ترويه قصصٌ ولا أنهار. فقل لي بحقّ السّماء الّتي تحكمها، كيف أراكَ؟؟
حين يكتملُ ثوبك وتنضج لحيتُك، ابحثْ عنّي، ارفعْ كلّ الحجارة الّتي تتعثّر بها، ربّما تحوّلتُ ظلًّا كشف نفسَه للشّمس واستراح.
زيوس، لن أبحث عنكَ بعد الآن. لن أكلّف نفسي عناءَ القتال وأنا بلا أظفارٍ، وبلا أسنانٍ مذْ لفظتَني. آن لكَ أن تترجّل عن الرّعدِ الّذي تمتطيه كأنّه حلّكَ الوحيد. حين ترحل إليّ انزلْ قليلًا إلى معاركي الصّغيرة وأنا أسألُ الطّريقَ كلّ صباحٍ عن خطاي. اسأل صاحب الفرنِ كم كلّفني اليوم فطوري، وكم يدًا طهوتُ معه كي أشبع. اسأل حامل المظلّة إن رآني ظهرًا وأنا أسابق المطر وأعرج تحته. اسأل عابرَ السّبيل لماذا دهسني تحتَ ضوء الشّمسِ متذرّعًا كذبًا بأنّه لم يرَني أمرّ. اسأل صديقي على العشاء لماذا قطع عنّي الهواءَ بعد أن مصَّ الحبَّ من دمي، وتركَني بلا شريانٍ، وبلا نزفٍ يُفْرِغُ منّي قلَقي. اسألْ كتفيّ لماذا تستقيمان هكذا كلّما انحنيتُ كي تقولا لي رفضًا أفقيًا قاسيًا كأنّني لم أعدْ طفلةً، أو كأنّني سامحتُ الجميع، مع أنّني لم أفعل.
زيوس، حبيبي!! فتحتُ لكَ الطّريق، فاتركْ تلكَ السّماءَ لغيرنا، واحتضنّي.